جلست في زاوية من زوايا المقهى العالية ووضعت كتابي المرافق ..وجريدتي اليومية واوراقي وقلمي ...وفتحت كتابي "حماري العاشق" على الطاولة اتصفحه في انتظار قدوم النادل... جاءني وبيده طبق خفيف المحمل ومنديل ...وهمس لي : - كيف نحسن ضيافتك سيدي ؟ نظرت اليه مليا ثم قلت له : ألكمْ نادلة ؟ نط وقفز وضرب على راسه ..ورماني شزرا ثم تحول بسرعة البرق الى عرفه ..وسمعته يقول له : من الان اعتبرني ..مقالا او مستقيلا ..واسحب مني الثقة..وهذه منشفتك وهذا منديلك ..وهذا طبقك .."والسماح في اتعابي" ..اعتبرني من الان كانني لم اكن نادلا او عاملا - ..ولكنك ستبقى ..لتصريف الاعمال..حتى انتدب نادلة كما طلب منك ذاك الحريف المحترم.. واجهشت بالضحك حتى الارتواء..وتدخلت بالصلح: *ولكنني لم اقصد ..فانت سيد الرجال ..وعملك عال العال..اردت مزاحك سيدي ..والحال انني ارى في غير مقهاكم ..نادلات ساحرات ومن ورائهن شبان مدمنون ..ساهرون ..غانمون عارفون ..غارقون في الهلوسة الاجتماعية والمعامع الديبلوماسية .. - ولكن سيدي ..ماذا اقدم لك بعد الذي جرى وكفى ما جرى ..قبلنا صلحك - كفى ما جرى..الرجاء..قهوة ..ونرجيلة منعنعة..وقارورة ماء معدني..وباقة ورد..ومحاور وقور..وسكرية بلا سكر..وكتاب "الجاه والجهل وعصر الجهالة" من مكتبتكم العصرية... وبعد ساعة لبى النادل طلباتي ..تركني بعد ان حياني ورسم لي رقم جواله..قصد الاتصال به ..لتجديد الطلبات ..او في حالة انطفاء ..جمرة النرجيلة لم اكمل تعديل اوتار جلستي الرائقة حتى دخل علي شيخ وقور..باسم هو ام عبوس لم افهم ..بيده عكاز..لم يسترخص في الجلوس وجلس قربي ..ووضع بعد اكتساح الطاولة بمرفقيه قهوته ...ثم اختلس جريدتي ...من قربي دون استئذان ...نظرت اليه احتراما وهمست اليه : الارض لك ..الارض ارضك فالعب كما تشاء..لم يسمعني ..اظن ذلك..ثم التفت اليّ حانقا : وماذا تكتب يا هذا ؟ قلت : مسرحية اجتماعية ..عن الحمير..وعلامات تقرير المصير... عبس وهاج وماج ...وقام ولم يجلس ..وصاح : ماذا تقصد ايها الابله؟ رآه حماري ..القابع غير بعيد مني.. يطالع كتاب "دروس الحضارة لصاحبيه جار وجارة " وقيل كتباه في خمّارة .. فهب مسرعا لنجدتي..ونهق..: لا تعدها لا تفعلها ولا تقل شيئا لسيدي ..والا .. ارتعد الشيخ..وصمت وجمد في مكانه.. تدخلت انا في حزم ..: عد الى قواعدك..ولا تهتم ..فكيف يتخاصم الوقار مع الوقار؟..اذ كيف ياكل الهشيم النار...فهمني حماري وغمزني ....وهو المعتد منذ عرفته بكلام سيده...قبلني من جبهتي ..ورجع الى مكانه .. استغرب الشيخ مما راى واعاد عليّ نفس السؤال :اعطني ما كتبت.. فاجبته ..: لم اكمل الفكرة بعد ..انا لا اعرف ما كتبه قلمي ..مجنون انا حقا لم اع بعد ما خطه يراعي - لا يهم اريد ان اطلع على ما خربشته .. - هي رسالتي لي ..لم تصلني بعد يا سيدي..وقهقهت حتى انتبه الي حماري ..وافتك مني عنوة ..مخطوطي..ولم يترك لي تجميع انفاسي ...وامعن في ما كتبته وهو يحرك راسه..ويردد في استغراب :" ما هذا ..ما هذا..ما هذا المخطوط الغريب..؟": يا طفلي ضاع مني الصواب..وضاعت المواقيت ..والاسطرلاب غرق في المحيط..والبوصلة تفككت اتجاهاتها ..وطار جنوبها الى القطب الوسيط..احترقت مذكرات التاريخ..والاموات فعلنا بهم كما يفعل الهنود..القينا برمادهم نصفه في البحر الميت ..والنصف الاخر على ارض المريخ..ودموعي جفت قبل ان تذرفها عيوني ..وبقيت قابعا على الربوة...اترقب مجيء صلاح الدين.." وتوقف قليلا ثم صرح متعجبا : -لا حول ولا قوة الا بالله ..هذا كلام لا يصلح الا للحمير... ومرة اخرى ..قفز حماري على الحدث..وحط قربي..واستفسرني عما جرى..وامطرني بالاسئلة الحارقة ..فلم انبس ببنت شفة..فواصل هديره..: - من ذا الذي يستطيع ان يمس سيدي بحرف مسيئ..جرفت تاريخه بركلة واحدة...وطمست معالم وجوده ..وقسمت ظهر تطاوله..على السيادة الادبية والتاريخية ..من يلمح الى قصفك بالكلام المشين اقصفه بالنووي.. من يحاول دك تواضعك سيدي ادكه بالقنابل الفوسفورية .. - لا تفعل..لا تفعل..فالوقار يحترمه الوقاركما سلف وقلت لك ..وكفى ما جرى... - صمت حماري ..وهدات ثورته..وذاب هيجانه ..سكتت افكاري ..وافاق الشيخ من سباته ..غاضبا ورشني بقهوته ورشني بالماء....ولكزني بعصاه..ونفض جبته ..وغادر المكان.. - فلم ابال بما جرى واعدت التركيز على اوراقي ... - وعلى حين غفلة ...صعقت باغاني شعبية على انغام المزود..انتشيت واوقفت النشاط ..الفكري ..والمعرفي..وتلهيت بما سمعت ..وراعني حماري وقد احتل وسط المقهى..واندفع في هيستيريا من الرقص الشرقي...هو يرقص ..وهم يصفقون ..هم يصيحون اعجابا وهو يتلوى ..ويشطح كراقصة شرقية حتى كلت الكفوف ...ولم يتعب حماري..اعجبني اعجابا كبيرا..رقصه رهيب...تمايله عجيب..وتخمرت برقصه واعجبت بقده..الممشوق..وهو يرقص على "وحدة ونص"..انه ساحر...جذاب ...فعلا لقد فاجاني باسلوبه المغري ..في التعبير الحركي بجسمه ..جسمه يتلوى كدودة الطين من حين الى حين..خدرني وسحرني وسلب جميع ...حواسي ..فنزلت الى الساحة..اشجعه ..وارشه بالقطع النقدية ..و"احوّت عليه"..فما راعني الا وصاحب المقهى..يوقف البث المباشر الحي ويصد حماري ويوبخني على صنيعه المشين..فنظرت اليه في صمت عميق ..من فرط الاندهاش والاستغراب..ثم هجم عليه حماري حانقا: - - اولا انا مهووس بالرقص..فلماذا لم تراقب البرامج التلفزية حتى تمنع المصيبة..ولعلمك فان الرقص يسري في دمي ..وانا اراقص الابداع ولا امارس السياسة..فهل فهمت ؟..ثم ان" الزهو والطرب لا تبدلو" لا بالسياسة ولا بالكياسة ولا بالدراسة..وهو مزيل لهموم الثورات العربية والستراس والتجاذبات السياسيوشعبوية..وهو مريح للحواس..ثم اطلب منك الاعتذار لسيدي ..والا جعلتها – مرقصا وملهى ليليا- ..الليلة قبل الغد..اعتذر لي ولحماري ..واعتذرت بدوري وحماري لجميع الرواد ..ومن النادل وعرفه ومن الراقصة ..وطويت مكاسبي تحت ابطي وغادرت المكان...وعند الباب وقف بعض الرواد صفا واحدا يطالبون الراقصة بالعودة ...لوصلة جديدة...فرفضت..