كنت قد كتبت عما يحصل في ليبيا.. وتحدّثت عن معاناة أشقائنا هناك.. الناجمة عن تجبّر معمر القذافي ولقد أكدت ضمن ما كتبت أن الرجل قد اختار الثورة على شعبه الأعزل.. والحقيقة أن موقفي المتعاطف مع أبناء شعبنا في ليبيا والمؤازر لثورتهم والرافض لما فعله ويفعله بهم قائدهم لم يمثل الاستثناء ولا الحالة الشاذة في تونس باعتبارنا قد وقفنا كلنا في هذا البلد وبمختلف اعمارنا وفئاتنا ضد القذافي وضد اعتداءاته على شعبه والذي نعتبره جزءا من شعبنا بحكم ما يربط بيننا من أواصر ومن روابط. وسوف أدعي أننا في تونس قد ظللنا نأمل في نجاح الثورة الليبية.. بل اننا قد عملنا على إنجاحها بطرق مختلفة لعل بعضها قد تجسّم من خلال فتح حدودنا وقلوبنا وبيوتنا ومؤسساتنا الصحية لأشقائنا القادمين إلينا من ليبيا هروبا من شرّ القذافي والذين لقوا عندنا ما يلقاه عادة الشقيق عند شقيقه من استعداد للدعم وللمساعدة وحتى للمواساة.. وقت اللزوم أكثر من هذا فلقد خرجت في بعض شوارعنا مظاهرات يحمل المشاركون فيها علم الثورة الليبية ويرددون ما يردده اشقاؤهم في ليبيا من عبارات الثورة على مغتصب حريتهم وعلى أزلامه. هذه حقيقة وليس من حق أي كان التشكيك فيها لأنها ليست جديدة علينا في تونس أو في ليبيا وليست وليدة اليوم أو ناجمة فقط عما يحصل اليوم أما لماذا تعرضت لها وذكّرت بها رغم أنها بغير حاجة لذلك فلأنها لم تنجح في حجب حقيقة أخرى قد بدت لعبدكم وللبعض من أمثالي على الاقل.. واضحة بدورها.. وما أقصده يخصّ.. هذا التدخل الغربي أو لنقل هذه الحرب التي تتعرض لها ليبيا اليوم من طرف قوات أجنبية غربية وأمريكية خاصة. والحقيقة التي بدت لنا من خلال هذه الحرب تتلخص في جملة واضحة تقول: ان ما يحصل اليوم في أرض ليبيا يمثل إهانة لكل العرب ويمثل اعتداء عليهم ويمثل تعديا على حقوقهم ويمثل وهذا الأهم: اسعتمارا جديدا لأرضهم ولعرضهم. أقول هذا برغم هذه التبريرات التي يطلقها الغربيون ويحاولون من خلالها التأكيد على حسن نواياهم.. وعلى غاياتهم النبيلة.. والتي يهدفون اليها من خلال تدخلهم العسكري في ليبيا.. وأقوله برغم ما لقيه هؤلاء من دعم لفعلتهم الجديدة من طرف بعضنا ممن تصوّروا وهذا حقهم بأن اللعبة هذه المرة تختلف عن سابقتها.. وبأن الذين يضربون ليبيا اليوم لا يحملون نفس ما كان يحمله الذين ضربوا العراق بالأمس من رغبات ومن أفكار إذ أن غاياتهم سليمة وواضحة ولا يمكنها أن تتجاوز الرغبة في حماية شعب اعزل.. من ظلم وجبروت قائده. أما لماذا أقوله.. وأبصم عليه بالعشرة وأرفع صوتي عاليا بصحبة الكثيرين من أمثالي لأنادي بأنه يمثل استعمارا جديدا فذلك لعدة أسباب أدعي أنها منطقية ومعقولة وأنطلق فيها بمسألة المبدإ والتي تعني في نظري أنه ليس من حقنا كعرب ومن منطلق أساسي ومبدئي الاستقواء بالاجنبي وليس من حقنا تمكينه من ضربنا أو حتى من التدخل بيننا لفض خلافاتنا ونزاعاتنا.. حتى ولو تفاقمت خاصة إذا كان تدخله عسكريا وعنيفا ويهدف الى تقتيل بعضنا والى ضرب قدراتنا. هذه مسألة أتصورها أساسية في حياتنا وأعتقد أن التنازل عنها يعني تواصل استعدادنا لتمكين غيرنا من استعمارنا ويعني عدم نضجنا وتبعيّتنا للآخرين ولعله يؤكد أننا في هذه الرقعة العربية مازلنا «قصّرا» ومازلنا عاجزين عن التصرف في شؤوننا ذلك أننا لو كنا غير كذلك لتمكنا ولتمكنت جامعتنا العربية من حل الاشكال القائم ومن فرض الحظر الجوي المطلوب ولنجحت حتى في اسقاط نظام القذافي بالاعتماد على القدرات العربية وبإسهام وبمشاركة العرب لوحدهم ولما سارعت كعادتها لرمي الكرة في شباك الآخرين.. ولما ارتمت في أحضانهم ولما طالبت جهرا بتدخلهم العسكري في ليبيا رغم علم من فيها ورغم تأكدهم بحقيقة ما يمكن لهذا التدخل أن يحققه من سيناريوهات وما يخلفه من نتائج وخيمة لعل أهمها قد بدأت روائحها تفوح وهو يتمثل في الاعتدءات التي تعرض لها مدنيون عزّل.. قد بلغ عددهم حوالي المائتين بين جريح وشهيد خلال اليوم الأول من الاعتداء فقط. هذا على المستوى العاجل أما على المستوى الآجل فلا أتصور أن جامعتنا التي انتفض أمينها العام هذا اليوم وبدأ يطلق التصريحات التي تستنكر التدخل العسكري في ليبيا والتي تطالب المعتدين بالاكتفاء بفرض حظر جوي دون تنفيذ ذلك بواسطة الاعتداءات على المدنيين قلت لا أتصوّر أن جامعتنا وأن أمينها العام وأن كل أعضائها ومندوبيها يجهلون أو يتجاهلون ما يمكن لمثل هذه التدخلات الاجنبية في ليبيا أن تخلفه من اثار على المنطقة بأكملها.. والتي قد تتحول الى مستعمرة جديدة من المستعمرات الامريكية بحكم ما تزخر به من بترول وربما في إطار الاستعداد المطلوب من هذا البلد لفرض توجهات جديدة بها قد تساعدها على فرض سياساتها على قادة ما بعد الثورة بهذه البلدان.. أكثر من هذا فإنه من حقنا القول بأن جامعتنا الموقّرة والتي أجازت هذا التدخل الجديد بأرض عربية مما حول موقفها الى مبرر هام من مبررات تنفيذه من طرف منقذيه قد كانت مطالبة بحكم موقعها ومن منطلق مسؤؤليتها التاريخية بتصور كل السيناريوهات وبدراسة كل التخطيطات الممكنة وحتى غير المطروحة حاليا خاصة وهي تفهم في هذه المسائل أكثر منا وتدرك أكثر مما ندرك ما يميز بعض التصرفات الغربية خاصة من حرص على تنفيذ مخططاتها العاجلة والآجلة والتي لا يمكنها في كل الاحوال ان تهدف الى خدمة هذه الأمة ولا أن تتسم بالرغبة في تحقيق الخير العميم لها ولشعوبها باعتبار أن ذلك لا يخدم مصلحة اسرائيل والتي يسكن حبها في قلوب قادة اغلب بل كل تلك البلدان الغربية.. ولعل جامعتنا بغير حاجة لمن يذكرها بهذا الشأن.. باعتبارها قد كانت شاهدة.. على كيفية تدخل «الحلفاء» في العراق وعلى غاياته المعلنة في ذلك الوقت.. والتي اتسمت في بداياتها بالنوايا الحسنة وبالرغبة في انقاذ الشعب العراقي من دكتاتورية صدام.. لكنها قد تحوّلت بعد ذلك الى رغبة واضحة في ضرب هذا الشعب وفي استنزاف ثرواته وفي هتك حضارته وفي تحويل بلده الى مستعمرة امريكية والى منتجع يقصده الصهاينة من أجل الاستجمام.. ومن أجل استعادة هدوئهم قصد النجاح في التخطيط لضرب المنطقة العربية.. والى مركز إقليمي يحفظ حق الامريكان في التمسك بالكوموند الذي يستخدمونه لإدارة شؤون العالم العربي. خوفي أن يتجدد اليوم هذا السيناريو في ليبيا وخوفي أن يحصل هذا وجامعتنا العربية منشغلة عنه بإطلاق التصريحات المنددة به بعد أن أسهمت في حصوله أما خوفي الاكبر فهو أن تكون المنطقة اليوم بصدد التعرض لتنفيذ مخطط جديد يهدف لاستقرار الامريكان بها.. من أجل تعديل اهداف بعض الثورات التي انطلقت فيها مثل ثورة تونس ومصر حتى لا تتمخض عن خلق خيارات تبيح لشعوب هذه المناطق اختيار من يقودها ممن لا يتمتع بمباركة الامريكان ومن أجل اطلاق ثورات جديدة أخرى بمناطق عربية جديدة اخرى لن تكون تلقائية وعفوية هذه المرة مثل ثورات تونس ومصر وحتى ليبيا ولن تكون بريئة لأنها قد تنفذ بأياد امريكية أو موالية لها وقد تهدف في إطار حسن استغلال ثورات الشعوب العربية الى اختيار طاقم جديد من الحكام العرب ممن يسبّحون بالحمد الامريكي وممن يدخلون بلدانهم على ظهر الدبابات. أولا يمكن أن تفعلها أمريكا بعد أن أن فاجأتها ثورة تونس وثورة مصر.. وبعد أن بدأت تشعر بأن المقود هذه المرّة قد بدأ يفلت من يدها بسبب ثورات الشعوب العربية وخاصة بسبب ثورات شبابها.. أو ليست الاقدر على حسن استغلال الأحداث لمصلحتها. أوَلم يخطر ببال الذين استقووا بها مرة اخرى فطلبوا تدخلها العسكري في شأن عربي قد كان يمكن حله عربيا انها لا تتصرف عادة لوجه الله وبدون أهداف تخدم مصالحها.. أولم يتصوّروا أن المسألة قد تتحول الى استعمار جديد؟.. آمل ألا يحصل ذلك على كل حال فيبرهن الامريكان هذه المرّة ان الحليب قد حقرهم فعلا من أجلنا نحن العرب.. أقصد تلك الكميات المهولة من الحليب التي رضعوها منّا.