رغم الاختلاف الحاصل حول تأويل الفصل 77 من الدستور المتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية والاختلاف حول الفهم الضيق أو الواسع الذي يقدم لمعنى ضبط السياسات العامة ومفهوم الأمن القومي فإن سقف انتظارات الناس من الدور المرتقب لرئيس الجمهورية كان عاليا جدا وقد تجاوز مجال الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الخارجية كما ورد حرفيا بنص الدستور إلى مجالات أخرى يرى البعض أنها تنضوي ضمن المفهوم الواسع للأمن القومي كالأمن الطاقي والمائي والغذائي واللغوي والثقافي والبيئي وغير ذلك من المجالات الاستراتيجية للدولة وقد كان الملف الاقتصادي وتحسين الوضع الاجتماعي من ضمن هذا الفهم الواسع لمعنى الأمن القومي و حاضرا بقوة في الحملة الانتخابية في الرئاسية في دورتها الأولى والثانية وألقى بضلاله في برامج كل المترشحين وبرنامج الشخصيتين اللتين انحصر فيها رهان الرئاسية والسباق إلى قصر قرطاج وبالنظر إلى فوز الأستاذ قيس سعيد بمنصب رئيس الجمهورية فإننا سنحاول تقديم الخطوط العريضة لرؤيته الاقتصادية ونظرته لكيفية تحسين وضع البلاد اجتماعيا علما وأن قيس سعيد ما فتئى يكرر مرارا أنه لا يملك برنامجا للبلاد ولا يقدم وعودا للناخبين وإنما كل ما يقدمه هو أفكار تحمس لها الشباب وأن برنامجه هو برنامج السكان في الجهات. بالرجوع إلى كل التصريحات التي صدرت عن الرئيس قيس سعيد كلما خرج في الاعلام و طلب منه تقديم رأيه و تصوره للخروج بالبلاد من أزمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلا و أعطى الانطباع بأنه يريد القطع مع منظومة الحكم الحالية ومع منظومة الفساد المتغولة ويرجع أصل المشكل في كل الفشل والعجز عن تحقيق الطموحات التي حلم بها الشعب بعد الثورة الى طريقة الحكم المطبقة وآلياتها والفلسفة السياسية التي تؤطرها فحسب قيس سعيد فان النظام السياسي الحالي المؤسس على نظرية الديمقراطية التمثيلية القائمة على دور الأحزاب السياسية في تشكيل المشهد السياسي وتدبير الشأن العام هو السبب الرئيسي في المأزق وهو نظام غير قادر على إفراز سياسات عامة تهتم بالمواطن وأن الحل يمكن في جعل الفاعلين السياسيين والمؤسسات السياسية هي التي تحكم البلاد ولكن بكيفية وطريقة عكسية عما هو مطبق اليوم حيث تتحول صياغة القرار من المحلي نحو الجهوي فالمركزي باعتماد مبدأ التصويت على الأشخاص ولا على القائمات وباعتماد نظرية الديمقراطية المباشرة التي تجعل الناخب يراقب من انتخبه ويتابعه أينما حل . وهذه الفكرة في ربط النظام السياسي بالسياسات الاقتصادية العامة و في ضرورة تغيير النظام السياسي لتحقيق التنمية وأحلام الناس بالتخلي عن نظرية الديمقراطية التمثيلية وفكرة العمل السياسي القائم على تمثيلية الاحزاب هي اليوم محل اهتمام كبير في مراكز صناعة الافكار ومحل جدل كبير ونقاش واسع في الدول الغربية حيث ظهرت دراسات عديدة لمفكرين غربيين تبرز هذه الهواجس وهذه المراجعات الفكرية في العقل الفلسفي والقانوني الغربي وأهم فكرة نجدها في هذه المراجعات فكرة أن مختلف الشعوب التي تتبنى الأنظمة الديمقراطية على الطريقة الغربية لم تعد تثق في مؤسسات الدولة وخاصة مؤسسة البرلمان ومجلس نواب الشعب وهذه الفكرة يتبناها قيس سعيد ويدافع عنها بقوة إلى الحد الذي صرح فيه بأننا لم نعد اليوم بعد الخيبات التي منيت بها الديمقراطية التمثيلية في حاجة إلى إجراء انتخابات تشريعية طالما وأن الأعضاء المنتخبين على النطاق المحلي هم من سوف يشكلون مجلس نواب الشعب من خلال الانتخاب المباشر من القاعدة إلى القمة وهؤلاء النواب هم من سوف يكون تحت رقابة الشعب ومحاسبته والناخب في هذه النظرية الجديدة المقترحة له كل القدرة في سحب الوكالة منهم متى أخلوا بالوكالة الممنوحة لهم وهذا يعني أن قيس سعيد يعتبر أن موضوع تطوير الاقتصاد وتحسين الوضع الاجتماعي للناس ووضع السياسات العامة الملائمة للمواطنين والخيارات التي تكون في خدمة الأفراد له علاقة بالنظام السياسي الحالي وله رابط بالخيارات السياسية المطبقة . إن فكرة قيس سعيد في موضوع الخيارات الوطنية ومنها الخيارات الاقتصادية وتحديد السياسات العامة للدولة تقوم على أن تحديدها وضبطها لا يكون في المركز ومن خلال قرارات فوقية وتصورات عليا وإنما السياسات العامة حسب سعيد تنبع من المواطن مباشرة ومن خلال شواغل الناس في المحليات التي يتم تصعيدها شيئا فشيئا من المحلي نحو الجهوي لتصل إلى المركزي فمطالب الناس في النطاق المحلي يتم تجميعها في النطاق الجهوي وتقدم إلى البرلمان في شكل قوانين ومشاريع وإثر ذلك تتحول هذه المبادرات إلى برامج عامة وسياسات حكومية فقيس سعيد يعتقد أنه بهذه المقاربة وهذا التصور يمكن أن نجيب على انتظارات المواطنين وبهذه الطريقة يمكن أن نبنى الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة من خلال آلية تصعيد المطالب والمقترحات من القاعدة نحو القمة فالسياسات العامة في كل المجالات ومنها المجال التنموي لا تنبع من النطاق المركزي والقرارات لا تكون نابعة من الفوق وإنما كل ذلك مصدره الأول القاعدة والمحليات . ما يدعو إليه قيس سعيد هو إعادة التصور لدور الدولة الاجتماعي من أجل تحسين المقدرة الشرائية للمواطن وتحسين وضعه الاجتماعي واعتباره أن التطور الاقتصادي يتبع بالضرورة نوعية النظام السياسي وأن المشكل ليس في البرامج والحلول وهي موجودة ولا في تحديد المشاكل وهي معلومة لدى الجميع وأن البرامج مهما كانت جيدة ومعقولة لا يمكن لها ان تنجح مع نظام سياسي لا يسمح بتطبيق السياسات العامة بشكل جيد وقد بان فشله في تحقيق المرجو للشعوب فما يقترحه الرئيس قيس سعيد هو اجراءات واليات ورؤية متناسقة للوصول إلى سياسات عامة تكون في خدمة المواطن . إن البرنامج الاقتصادي للرئيس قيس سعيد يقوم على فكرة أساسية وهي أن الديمقراطية التمثيلية والانتخاب على القائمات هي آليات حكم غير فعالة ولا يؤدي إلى تحقيق نمو اقتصادي دائم وعادل وأن السياسات العمومية والخيارات الاقتصادية والاجتماعية لا بد أن تخرج من المواطن في النطاق المحلي الذي يسلمها إلى من يمثله ليحققها في البرلمان في شكل مقترحات ومبادرات تشريعية فمشروعه يقوم على فكرة القرب والمساءلة والمتابعة وعلى آلية سحب العهدة والوكالة من النائب متى أخل هذا الأخير بالالتزام الممنوح له وعلى فكرة أن دفع النمو الاقتصادي ينبع من مقترحات المواطنين في جهاتهم لتتحول إلى سياسات عامة عبر عملية التصعيد إلى الجهات لتنتهي في الأخير وتستقر في مجلس نواب الشعب الذي يحولها إلى قوانين ملزمة للدولة.