مشهد سياسي يتبارى فيه من عجز على تصور المستقبل، ولوح بأوزاره على مسيرة شعب، اثقله اختلاط الاوراق، و توالى على وعده لوبيات الفساد، ونسج له مختصي ازدواج اللغة مرفأ، واختاروا له حماية الاجنبي ملجأ، فاتت جحافل من المشردين، لتغزوا البلاد، وتسيطر على أوصلوها، و تزور تاريخها، وتبعث برسائل التهديد لمن وقف حجر عثرة في طريقها، وكل ذلك تحت غطاء ديمقراطية مريبة، ودفاعا عن حقوق انسان خيالية، تستعمل للضغط والاستيلاء على الحكم، والبذخ بأموال الشعب، وانتهاكات حرمة المسكين بكل وقاحة، وعدم ادراك، فحاولوا القضاء على ما انبتت ارضنا الطيبة من كفاءات، تشغلها البلدان المتقدمة لسد حاجياتها بمقابل، لا يمكن لاقتصاد البلاد تسديدها، لما يعانيه من فقر واحتياج، وكان الدنيا انقلبت راس على عقب، واصبح المزيف لسيرته الذاتية يقود البلاد، والمتهرب من الجباية له القول الفصل في ادارتها، واهل الطبقة الوسطى يتخبطون في مآسي الحياة، بحثا عن القوت والصحة والمسكن وما الى ذلك من ضروريات الحياة، اما القضايا الاساسية التي تتعلق بمصير تونس، وبأنموذج المجتمع الذي نادت به الثورة، غابت عن السلطة الرابعة الاعلام، وما ادراك ما الاعلام، الذي اصبح من ابرز نقاط ضعفه، الاعتماد على المادة التي تبثها وكالات الانباء، وكذلك "الفايس بوك" مصيبة القرن، مما جعل اغلب وسائل الاعلام تتصف بالتشابه، وتفتقر الى مصادر ومعلومات واخبار، رغم انها متوفرة اغلبها لدى الوزارات و لدى الادارة تحت الكتمان، وكم طالبنا الوزراء بالدفاع عن خططهم وبرامجهم، والالتجاء الى الصحافة لنشرها لإبداء الراي فيها من المواطن ونقاشها، ونتحدى تلك الكفاءات المزعومة المقارعة بالحجة والبرهان، ولو تصفحنا مليا الصحافة بأنواعها لاستخلصنا غالبا عدم التناسب بين المادة الاعلامية الخام، وبين ما يجب من تحاليل وشرح وتعليق، فالمساحة المخصصة لذلك تكاد ان تكون مفقودة، اما الالتجاء الى القوالب المبتذلة والمكررة، فحدث ولا حرج، وما قرأت يوما ردا على تهجم وسائل الاعلام الاجنبية على مكاسبنا، وعلى رجالاتنا الاوفياء، وقد كان لي الرد في حينه، عندما حاول صحافيون فرنسيون المس من المرحوم الباجي قائد السبسي، عند تقديم ترشحه للرئاسة، كتبت بعنوان "كفانا ذرعا من المتطفلين" Les intrus, ça suffit (9/12/2014) في كتابي " De la révolution…Tout un programme Chroniques 2011-2014 لا يغيب على احد ان الاعلام اختيار حضاري، يؤمن بحق الفرد في الحرية، وبضرورة الانتماء الى مجتمع، يسوده النظام والانسجام، على ان الحرية مسؤولية، وان النقد واجب و ضروري، اذا كان في خدمة المصلحة العليا للبلاد، ولا ننسى ان السياسة الاعلامية عنصر من عناصر بناء الحضارة، التي نريدها قاسما مشترك، وان التاريخ اثبت ان نجاح التنمية، له ارتباط عضوي بإعلام جماهيري متطور وعصري، ولا رهينة "لوبيات" همها الربح مهما كان الثمن، وان تطورت الصحافة منذ الثورة، فانه لابد من وقفة تأمل في مسارها للتقييم، والدفع بها الى الامام من جديد، عند الوقوف من جوانب الضعف، التي يجب تداركها، ومساهمة مني، وقد تناولت في مقال عنونته "اعانة الصحافة لبناء صرح جديد واقع لا مفر منه (27 مارس 2014) ، في كتابي" تونسنا الى اين المسار"، أعيد الكرة بأسئلة أطرحها للبحث والنقاش، منها هل انفردت الصحافة وحدها بالإثراء، والبلاد في أزمة أمنية واقتصادية واجتماعية، لا تزال على قاب قوسين؟ هل انكبت الحكومات المتتالية على ايجاد حلول تشقي غليل اهل المهنة؟ هل احتكار وسائل الإعلام وان ازداد عدد أقطابها، بعد الثورة، تدافع عن نفس المصالح؟ هل الصحفيون أصبحوا يواجهون هيمنة المال؟ هل اعداد الأحزاب، واغلبها دون برنامج يذكر، تزيد في صعوبة المهنة للوصول الى مواضيع مصيرية بالنسبة للقارئ وهي الخوض في المشاكل الحقيقية للمجتمع؟ هل الديمقراطية اصبحت ذريعة للرداءة، ومنهجا لعديمي الضمير؟ هل الأحداث الجارية أمام أعيننا في الهيئات الدستورية وفي سوء التصرف في اموال الشعب المنهوبة، بدون حساب، تترك مجالا للتردد على انهيار مستوى الحكم، ونحن على شفى حفرة، اذا تمادى ما نحن عليه، من نشر الكراهية والتحريض على الفتنة والانقسام والتبعية؟ ان الأحداث الجارية أمام أعيننا يزداد فيها التوتر، هذه الايام، على خلفية الانقسام حول مؤيدين اعلان مكتب المجلس للنظر في مشروع تقدم به ائتلاف الكرامة، يرمي الى تعديل جزئي لمرسوم " 116"، وخاصة الفصل السابع منه، وهو تركيبة هيئة الاتصال، والتخلي عن اجراء الرخصة المسبقة لإحداث القنوات (القنوات التلفزية والاذاعية والفضائية) ، وتعويضها بكراس شروط، والتزامات مهنية تخضع لسلطة القانون ومن شق رافض للتنقيح، معتبرا المبادرة التشريعية خطوة خطيرة في إدخال الفوضى في قطاع الاعلام، و فتح الباب أمام المال الفاسد والمشبوه، لمزيد السيطرة على المشهد الاعلامي، وان في التعديلات المقترحة تهديد للمسار الديمقراطي برمته، جدل متواصل ولا اجازف بالنظر في خلفياته، لان اعتقادي ان الاعلام يشكوا "الكفيد"، ولا احد يعرف الدواء النافع، فهو كما يلفت انظارنا ويحيطنا علما من تبجح من لا يعرف الداء، ويتطفل عليه كل يوم للظهور في الاعلام، ولا نعرف المقابل، والتنويه بنصائحه للعموم، وكان من الاجدر اعداد العدة، لما يحتاجه السلك الطبي وشبه الطبي، من لوازم ومن استعدادات، على غرار البلدان المتقدمة، من بيانات مضيئة وشفافة تحيي الامل، لا من مظاهر بؤس ومرضى في حالة دمار، تكشفها نفس القنوات التي كانت تمجد في الوزير الاسبق، وخبرته في التظاهر امام عدسات الفضائيات، وحتى التصاريح الخاصة للوكالات التركية، ذلك الجنرال، كما يلقبه زملاؤه في النضال، ان كان لهم نضال يذكر، الذي اخل بعهده، وجعل من صحة المواطن رهينة نجاحه وحزبه وذويه، فالحقيقة من الواجب اظهارها، وتدقيق جوانب الضعف والاهمال التي ظهرت في ادارة الازمة، ينبغي تداركها، ومن الواجب التخلي عن الذين تنقصهم الخبرة، و سيطرت عليهم الشعبوية، ولنرجع لتصاريحهم وادعاءاتهم في الاشهر الماضية، لنجدوهم من مخترعي دواء الفيروس، او العارفين بزواياه الخفية، وهلم جر من الخرافات والترهات، التي جرت بلادنا الى هاوية، لم نعرف قاعها، و لم نعرف كيف كانت ادارة الازمة، ولا من تولاها، ودار لقمان على حالها، وما التصاريح المتضاربة الا دليل على قلة التنظيم والمسابقة في "الأنا"، كل طبيب اصبح مختص، وعبقري في مسؤوليته، يشاع سيته في المحافل الدولية نتيجة الزمالة والأخذ والعطاء، حتى ان ممثل المنظمة الصحة العالمية في تونس، كان له راي في اصلاح ميدان الصخة في بلادنا، ولم تحرك الصحافة للخروقات ساكنا، لوقف تيار يغزوا بلادنا، ويحاول تركيع سيادتنا فإلى متى يبقى مكتب اممي في عقر مجلس نواب الشعب، وقد رفضت ذلك وغادرت المجلس...ولمن عاش الفترة التي قضيتها يدرك معنى "الصدق في القول والاخلاص في العمل" ويستحق في خاتمة هاته الخواطر التأكيد على أنها مساهمة بسيطة في إذكاء الحوار، ومناقشة السبل المؤدية الى اعلام في مستوى الثورة، فالنقد والدراسة والتمحيص و الإستفادة من التجارب الناجحة في البلدان المتقدمة هو خير معيار للبناء، وما ضر نواب الشعب التيقن من الحالة الكارثية التي هو عليه قطاع الاعلام، يتصارع اليوم مع صعوبات كبيرة، ومشاكل متنوعة غير محلولة، من بطالة و تضخم وطلبات متزايدة، مشروعة كلها نتيجة حتمية لاختيار نظام اجتماعي واقتصادي ان دعم الحضور الاعلامي حتى في الخارج، كتوسيع شبكة مكاتب تونس إفريقيا للأنباء مثلا، وكذلك احكام توزيع الصحافة القومية في كل ارجاء البلاد، وتنشيط الملحقين الصحافيين وتزويدهم بأكثر ما يمكن من المعلومات، و حث المسؤولين وتحريضهم على المساهمة في انارة الراي العام في ميادين كلفتهم، واقامة دورات تدريبية وحلقات مع المسؤولين حول مشاكل الساعة القومية والعالمية، وما الى ذلك من مقترحات للإفادة لا غير، ان التفكير في اصلاح ميدان الاعلام يكون بالعمل المتواصل، كل في ميدانه وبإمكانياته، حتى لا تتفاقم القطيعة، ولا تزداد مديونية الأجيال القادمة، وقد ناضلنا وضحينا بشبابنا في سبيل تونس كلّما اقتضاه واجبنا بدون جزاء ولا شكورا. هوامش رجب حاجي : دكتور في الاحصائيات- دكتور في الاقتصاد- شهادة تكوين مستمر بجامعة هارفارد الأمريكية - ألف أربع كتب في علم الاحصاء في المستوى الجامعي- اول رئيس بلدية ملولش- شغل رئيس ديوان المرحوم محمد الصياح عشرات السنين ورئيس ديوان وزيرة الصحة ومكلف بمهمة في اختصاصاته لدى رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر اطال الله عمره الى غيرها من المسؤوليات الوطنية...