بدءا مِغناطِيس النَصّ، رُوحُه المُسْتنفَرَة، فائضُ رغبته المُتَحقّقة بِفِعْل الكِتابَة هِي الّتي تطرق باب السمع الجُوانِيّ. وَلَيْس بِإمكان المُتَلقِّي إلَّا الاستِجابة لِلْمُنادي. كذا التفاعل بَيْن المَقْرُوء والقارئ، إنْ أثار المَقرُوء قارئه واستثاره في الحِين. وللشاعر سَكَنُهُ تخصيصا ب"المُتضائل" لِخالد ردّاوي (*). بابٌ أوّل رئيس: "قال آدم" فَتَحَ العالم الشعريّ إلى الداخل حَيْث مَمَرٌّ أفضى بنا إلى باب ثان عنوانُه: "الأَصْواتُ الراقصة" أَسْلمنا إلى فضاء جُوانيّ آخر أَوْقفنا عند باب ثالث: "سِيرة الخواء"، وآخر الفضاءات في المسكن الشِعريّ الواحد ما أَوْصلنا إلى الباب الرابع المُشرَع على "رغبة بِلا يَدَيْن". وفي الآخر "باب مُوارب" قد يعُود بِنا إلى نقطة البَدْء بما يختصر رِحْلة الكائن وحَرَكة الكَيْنُونة بِبَدْء لا بَدْءَ له، وإلى انتِهاء بِلا انتِهاء، كما المَكان بِمُطلق صِفته المَكانِيّة هُو استِدارَة وَدَوَران، وكما الزَمَن الدالّ على الكَيْنُونة أو الكَيْنُونة الدالّة على الزَمَن عَوْداً أَبَدِيّاً بِالمُتَحَرِّك واللَّا- مُتحرّك تماثُلا في تِكرار الحركة بِفعل الحُدوث والانقضاء ثُمّ الحُدوث يَلِيه انقِضاء إلى آخر المَدى في أبدِيّة الزَمَن اللَّا – مِيقاتيّ. فَاللَّحْظة الشِعريّة، هُنا، هِي بالغة الندرة، استثنائيّة تستقدم دُفْعَةً واحدة تُراث الإنسانِيّة جَمْعاء إلى عالم النصّ الشعريّ الواحد المُتَعَدّد، حِكاية الأَصْل كما صاغَها الإنسان في مُختلِف الأَدْيان الوحدانيّة، ومن قبلها في الفِكر الأُسْطُورِيّ مُنذ أوّل نَصّ دِينيّ شعريّ حِكميّ هُو "النَظَر إلى أعلى"، نواة "ملحمة كلكامش" البدئيّة، بِالمُختلف عن المُقارَبة الداروِينيّة، إذْ للشِعْر يَقينه اللَّا- يَقينِيّ بِما يُعْجز أحيانا كثيرة العُلمَاء والفلاسفة على حَدّ سواء لِكَوْنه يَصِل في مَجال مُشتَرَك بَيْن رُوح الفلسفة وحَدْسِيّة العالم وَالتَنَبُّؤ وإمْكان المُسْتَحِيل... 1- "الباب الأَوّل: قالَ آدم". قالَ آدم: بِاللُّغة (القوْل) أمْكن مُقاربةُ المُسْتحيل، تسْمِيةُ اللَّا- مُسَمَّى. ف "آدم" هُو مُختصر حِكاية الإنسان والإنسانِيّة في البَدْء الأوّل، وهو الكائن الناقص وُجوداً بِحُكم طبيعته الأُولى والمُتَطوِّرة التائق إلى الكَمال، المُكابِر حَدّ التَأَلُّه المُتصاغِر أَيْضاً بِالتسْلِيم بِفكرة الإلَه المُتعدّد والواحد. وما الكِتابة إلَّا وَلِيدة إحساس بِاليُتْم مُنذ الأَوائل، يُتْم أُمومِيّ بِفِطام المَشيمة ثُمّ فِطام الرضاع يَلِيهما فِطام الأحضان الأُولى. وَبِأَسَى اليُتم، هذا اليُتم المُنغرس في عَمِيق النفس، ينطق اللِّسان شِعرا، يَتكلّم (مِن الكَلم- الجُرْح). وَبِضَرْب مِن الترْجيح يتأَسّى الشاعر مُخاطِبا أباه آدم ناشدا أُمّه الضائعة أَبديّاً، فلا الأَب يُجِيب ولا الأُمّ تستجيب، إذْ لا أَمَل في استرجاعها، كما الجنّة الأُولى، جنّة الأُمومَة الضائعة، ولا جَنَة أُخرى مِن بَعْدها. وما فقدان الأُمّ إلَّا فِقدان الجنّة الأُولى والأخيرة. وإذَا فقدان المُبْتدَأِ وُجودا هُو مُنشئ التيهان القسْريّ لِلْكائن الإنسان. وَبِالإنّيّ (moi) والإنّيّة (mienneté) يتحمَّل هذا الكائن اليَتِيم مسؤُولِيّته كاملة، فَيُدْفع إلى طريق الوُجود دَفْعاً لِيَسِير بِلا وُجهة ولا اتِّجاه عَدَا أن يَحْيَا بِنَفاد القُوّة وإنفادها الحتْمِيّ، وذلك إلى آخر نفاد. وفي الطَرِيق عناءُ سَفَر تِلْو سَفَر، بِفِعْل الحَرَكة والتنقُّل، وسَأم وانتِظار، ثُمّ انقِضاء حتْمِيّ ولا انتِظار. مَسْكُونًا بِقَلق دَفين مَوْرُوث مُتوارَث هُو خالد ردّاوي. مُزْدحما في الداخل بِصُور البِدايَات، وبِخيالاتِ أفكار وظلال وَمَعانٍ بدائيّة، وبِحكاية الأوائل مُختصَرَةً مُكثّفةً بِآدم الأَب وحوّاء الأُمّ وَجنّتها الضائعة... وفي "البَدْء كان": يَتنادَى في ملفُوظ خالد ردّاوي الشعريّ نُصوص أُسْطورِيّة ودِينيّة، بِقصّة الخَلق ونَشأة الحَياة ومِيلاد الإنسان وتكوُّن الذاكرة الأُولى وحال النسيان واشتِغال التمثُّل فِكرا، وعْياً بدائيّا، عقلا طُفولِيّاً، برمزية الشجرة والأفعى و" دم البِداية " والجَسَد يتهَيَّأُ لِمُغامرة الوُجود الأُولى والخَطِيئة تُدَلّل إيحاءً على حال الفِطام المُفْجِع المشيميّ والرضاعِيّ ثُمّ الحضنِيّ. فيتّسع مجال التناصّ ويعمق في إظهار صُورة هذا البَدْء الأوّل بالصحراء والنماء، وبِشَتّى الأساطير القديمة والأشعار الحَدِيثة والمواقف حيث لا فصل في أمزاج خالد ردّاوي الشعريّة بَيْن حِكاية آدم والجنّة الأُولى والغواية والخَطِيئة والشقاء الأرْضِيّ واستعباد الجَسَد عبْر مُختلف العُصور والأزمنة والعُنف والتحارُب والصِراع الطبقيّ والعُدْوان واحتِلال البُلْدان وجُنون العقل يقترف أفظع الآثام والجرائم. وإذَا آدم ودانتي والسيّاب وماركس وعشتار وديكارت والربّ والإنسان مُتعالِقة في ملفُوظ واحد يُقارب وَيُداخل بَيْن مُختلف الأزمنة والمواقف والسِياقات بِسياق حادث مُشتَرَك مَزْجِيّ تناصِّيّ عُنوانه الرئيس: "العالم- الحَياة": "فَالعالم بَيْن الياء والألف جَرِيمة يُسَمّونها الحَياة" (ص22). فتلتَفّ بنا ظلال ذاكرة إنسانيّة، هِي ذاكرتنا نحن البَشَر جميعا. ولوْلا كَثِيف الشِعْر وفائق اقتِصاده اللِّسانِيّ لما أَمْكننا إدراك مُختصَر المُختصَر. فلا جَديدَ في بيان الأًصل الأوّل، وإنّما الجَدِيد هُو في إتقان الشاعر لِفَنّ المَزْج، فَنّ كِيمياء الشِعر، بِدُرْبة مِن خبر الجمع بَين عناصر مُتباعدة حَدّ التنافُر أكسبها البعض الكثير مِن رُوح الحياة، حياته، وحياة جسده المُسْتنفَر بِمُجمل قُواه الحِسّيّة والعقليّة والحدْسِيّة والتخيِيلِيّة، وَبِفائض الرغبة وشَدِيد الغُلمة الكاتبة المُفتضّة لِبِكارة العادة... مُوحشٌ مُوحشٌ هُو العالم (عالمنا) بِما تُجسّده حال الحرْب، حال القتْل، حال "الجُثَث الباردة"، حال المَوْت المُسْتباح، لا الموْت المُحايِث وجودا للحياة الّذِي به تنفد مِرارا لِتتجدّد وتتنامى إلى أن تنفد بالكامل. مُوحشٌ مُوحشٌ هُو عالم خالد ردّاوي حيْث المَوْجُود الكائن يشقى بِنَزيف ذاكرة قديمة وفاجعة فِطام وتضييع الجنّة- الأُمّ أو الأُمّ- الجَنّة، وحيْث لَيْل الوُجود عتمة بها أَطياف مُتلاحقة لِوَقائع ووُجوه وأفكار ووهن حال بِسَكن لا يُؤوي ساكنه في واقع الوُجود، إذْ لا سَكِينَةَ نتِيجةَ الخلاء المُسْتبِدّ والفراغ السائد. "بَيْتِي كَبَيْت العنكبوت أجمِّع فِيه فراغي..." (ص26). وَهْم- فَهْم، وَبيْنهما لا يَقِين، اطمئنان مُخادِع مشوب بِحَيْرة. كذا هِي "قداسة الوهم" تُظهر واقِع كيْنُونة وتُخفِيه بِالموْرُوث المُتداوَل. وإلى ذلك نفيٌ ينتهج الشاعرُ سَبيله مُقابل إثبات الوهم الموْرُوث عبْر قُرون. وحالُ الشِعر، هُنا، هِي مِن حال الشاعر، وهي أوْسع مدى مِن لُغة اليَقِين واللَّا- يَقِين تَردُّداً بَيْن الأرْض والسَماء: "أنا لن أعود إلى الأرض ولن أَكُونَ دُخان السَماء" (ص31). فكيْف، إذنْ، لِلُغة الشِعر أن تسع حال الشاعر، وهو المُتَرَدِّد بيْن وهم وفهم؟ هل باستِعادة أصل الإنسان/أُصوله بِمُختَصَر ما شاع مِن أساطير وحِكايات أدْيان أم بإرباك منطق اللُّغة لِدَفْعها إلى عتمة التِدْلال (Signifiance) حيْث الأَلْفاظ/الدوالّ رُموز بلا مراجع بيّنة دالّة عليْها؟ وكالشائع أحيانا في "قصيدة النثر" العربيّة والعالميّة يكون التَوَسُّل في الكثير مِن المواطن بِهَذيان اللُّغة انكِتابا قبْل هذيان الشاعر المُتَعَمَّد كِتابَةً للاستِعانة به على بهمة الحالات الطارئة المُلْتبِسة، كأن يحرص الشاعر على الاستدلال بِالأشدّ إعتاما مِن العتمة ذاتها، بِما تُبْصره عَيْن أُخرى هِي أبعد مِن الحِسّ والإحساس، ومِن العيْن والقَلب، هي عيْن حدس ينْكتب عفوا ويُحِيل في الكثير مِن المَواطِن إلى عوالم السريالِيّين شِعْراً والتكعيبيّين رسْماً والتفكيكِيّين عقلا والتجريبيّين فَنّاً، بل فُنونا بِمُختلف العلامات وعلامات الدَلالات (Sémanalyses). فكيْف بإمكان النَظر أن يَكُون من "فتحة في الحذاء"؟ وكيْف الاستِعاضة عن الكَلام بِكلام الصَمْت؟ وكيْف الاستِدْلال على العتمة بِالبياض؟ وأَيّ بياض لمعنى؟ وأيّ معنى لِبياض؟.. إنَّ مِيزة الشاعر هِي مِن مِيزة الشِعر، إذْ حينما تضيق الحال يلتجئ واصِفُها بَوْحا إلى التِكرار، وكأَنّ بَوْصلته الوحيدة في لَيْل وُجوده المعتم هُو التِكرار استِدارةً ودَوَراناً، كالترجيع أو اللَّازمة (Leitmotiv) في حَرَكة اطّراد الشعر أو المعزُوفة المُوسيقيّة، وفي أيّ إبداع إنسانيّ، بِما في ذلك الفِكر، إذْ بالتِكرار ينجو الإنسان ولو قليلا مِن الضياع الكامل، فَيُدْرك أنّه موْجود بِالفِعل وإنْ هُو يَسِير بِلا وُجهة ولا اتِّجاه، رغم وهم دليله في طريق هِي بِلا علامات يحسبها السائر فيها مُتَمَدِّدَةً بَيْن حَدَّيْن بِولادة في البَدْء وهلاك في الأخير، وَبِالواصل الما- بَيْنِيّ حَياةً بِمَوْت ومَوْتاً بِحياة. ولا دَلِيل للشاعر في مُدْلهمّ حاله إلَّا العِشق، بِالمَعْشُوق الواحد، وبِحَرَكة الالتِفاف وِفق مُختصر رمْزِيّة الدائرة حَيْث "التطويف" والبقاء الحتْمِيّ داخلها حُضوراً واعتِياداً غَيْر ثابتَيْن تماما بمعنى المَكانِيّة وإنّما حُضورا بِالمَعيّة، ولا غياب عشقا في اتِّجاه هذا السوى الماثل وُجودا في عَمِيق الإنّيّة: "شاهدْتُ حُضوري وغِيابي فلمْ أَكُنْ فيهما كُنت معه ولم أغب عنه" (ص47). فلا مُنقذ، هُنا، مِن المَتاهة، مِن بُهْمة المعتم، مِن عجز اللُّغة ولُغة الشِعر لدى الشاعر إلَّا بالالتجاء إلى معشُوق غَيْر مُسَمّى لفظاً، وإلى وضْعِ حال استثنائيّة لا تُحدّ؟، كما أَسْلفنا، بِالحُضور ولا بِالغياب، وإنّما بِالمعيّة، بِالإنّيّ والسِوَى في مُشترَك حال مُفردة، لا كأَيّ حال. إنَّ مِيزة الشاعر، والشاعر الأَلْمانِيّ هولدرلين في قراءة مارتن هيدغر له ضِمْن "مُقاربة هولدرلين" و"المَتاهات" والتوجُّه نحو الكَلام "هو الاقتِدار على تغيير الوجهة بَيْن الحِين والآخر داخل ليل المتاهة بوعي كَيْنُونِيّ مفاده حكاية "آدم" تختصر بِمُجمل الأساطير قِصّة الخلْق ونشأة الإنسان حضارَةً. 2- الباب الثاني: "الأَصوات الراقصة". بابٌ ثان نعبره مُرورا مِن القوْل الْتِفاتا إلى قوْل السماع حُضورا ب"الأَصْوات الراقصة" "الأَصْوات تتطاير مِن حولي كُنُدف الثلج أو كقطن ذارف" (ص51). فَيُواصل إنّيّ الشاعر تنصُّت الأصوات، أصْواته الجُوانيّة مُسْتعيناً بها على وحشته، على وِحْدته: "أصْوات كَمنجات، صَوْت السُكون، صَوْت الصمت يتخطّفه الموْج، صوت الماء يُسْمع بالعيْن الرائية، بل أصْوات الينابيع، الأصوات الساجية، أصوات الألوان". وإذَا نحن في عالم مُزدَحِم بالأصوات الّتي تُبصر أكثر مِمّا تُسمع، أو تُبصر حِسّا حَدْساً في الآن ذاته ولا تُسْمع: "الأصواتُ تتطاير مِن حولي وأتطاير مِن حَوْلها فَأُحيط بها، وتُحيط بصمتي...!!" (ص57). وتشتغل الحواسّ شعرا بِاللَّا- مُنتظَر، كأن تسمع العيْن قبْل أن تُبصر، والصوتُ يُتَمَثّل رقصاً، ذاك الصوت البِدائيّ قُدَّ مِن "صلصال البَدْء"، وهو الصَوْت المسكُون بصمته البِدائيّ، صوت التمْتمات لا تُسْمع بِأُذن القلب، يحمل، كما التمتمات "عُرْيه"، "تبتُّل خطيئته الأُولى، صُورة الجَسَد قبل أن يتشكَّل ثُمّ لحظة بدْء تَخَلُّقه، وحِينما يشفّ رُوحا، ك "رُوح القُدس"... ويفتح الصمت الماثل في القوْل على العَبَث، على البُهمة، على سَراب المعنى، على الحُلم، على البياض، على هذيان اللُّغة، على تمْتماتها، على السَراب الكاشف والحاجب معا في إدراك هذا السِوى المُعَرَّف، تقريبا، بِالأُنثى المُخاطَبَة. ويستمرّ وصف الحال بَيْن الصَوْت والصَمْت بِالمطر، بِالماء، بِالجَسَد المُسْتيقظ بِمُجمل حَواسّه، بعميم قُواه الرُوحيّة، المُنفتِح على عناصر الطبيعة مُختصَرَةً وُجُودا في الماء والرِيح والضوء. أمّا الناظم بَيْنها فهم حُلم أو حُلم يَقظة (rêverie)... كَذَا نتوغّل في رُؤيا الشاعر مُرورا مِن الانفِراد المحض إلى الانفِراد المُلازم لِصَوْت الغيْرِيّة أو صَداها، وَبالعالم يتّخذ له وَجْه الطبيعة المائيّة المُتَدَفِّقة حياةً ب"الضَوْء والماء والورْدة والفراشة والحدائق"، و"جسر الضوء المُبَلّل"... فَبِالصَوْت يحدث الإنصات إلى الآخر إمْكَانا، وإلى العالم. وَبِالصَوْت أيْضاً (صَوْت الصمت) يُسْتعاض عن وحشة الوُجود، عن "الظلّ البارد"، عن "الشمس يُغَطِّيها الصَقيع"، عن الحُزن، كما يُسْتعان على خواء اللّحظة وارتباك منطق اللُّغة المُتداوَل وَتَعطُّل الذاكرة، إذْ ب"زخّات المَطَر" تنفتح "نافذة الشاعر الوحيدة" على "مرفأٍ يستقبل الحُلم". وإذَا الطبيعة، طبيعة الماء، تحديدا، تُساعد إنّيّ الشاعر على الحُضور المُكثّف في اللّحظة (الآن)، هذا الزَمَن الراهنيّ الّذِي عَبَرْنا إليْه مِن الباب الثاني في حَرَكة تنقُّل الشاعر داخل سَكن حلمه الشعريّ الغارق في عتمة شِبْه مُضيئة أو ضَوْء شِبه مُعْتم. وَلِلْأبواب، كما لِلْأبواب في كُلّ الحِكايات العجيبة، سِرّيّتها الخاصّة بِمَدى انفتاحها وانغِلاقها، وبِما تُظهِره وَتُخفيه. 3- الباب الثالث: "سِيرة الخواء". مِن معنى البِدايات أو الأوائل إلى اللّواذ بِاللّحظة (الآن)، ومِنه إلى إدْراك حال الخواء خواء الرُوح وخواء المعنى في الآن ذاته تتواصل حركة التنقّل عُبورا إلى موطن آخر في "سكن" الشاعر، حُلمه أو حُلم يقظته، بما أَسْماه "سِيرة الخواء"، لِيَصْطدم بِوَقائعه ويزدحم بِأوْجاعه وأحزانه المُمِضّة. وإذَا الفراغ، العَدَم، الانتِفاء تستبدّ بِالمشهد الشِعريّ الّذِي يتراءى مَوْصوفه شبه مُتَفَسّخ مُزدحما بِأطياف المعاني والحالات وظلالها غير الثابتة في أشكال. فلا مناص لِلُّغة الشِعر من أن تنساق في حالةٍ شبه هذيانِيّة، كَذِكر الجدّة "تلتقط خساراتها بِالمَلاقِط"، و"وجه طِفل دهستْه عَرَبات اللَّيْل"، و"الأرامل يمشينَ حافيات"...، وغيْر ذلك مِن صُوَر تُقارب وضْع التَشكُّل في ازدِحام صُوَر عِدّة فراغيّة لِيَسْتفحل بِذَلك الإحساس بِالخواء، بالإنّيّة المُهَدّدة بالانقِسام، بِفِقدان نواتها الناظمة بَيْن أنا وأنت في بِنْية كُلّ ذاتٍ لها وُجودها الهُوَوِيّ الخاصّ وغيْرِيّتها في الآنِ ذاته: "أنا ثاني اثنَيْن وأنتِ أَوّلنا فكيْف أُعِيد ترتيب الخواء وأنتِ داخلي؟ " (ص95). فَيَتَرَسّخ لدى إنّيّ الشاعر يقين واحد، تقريبا، هُو إدراك إمكان مُغالبة الإحساس بِالخواء بِالواصل بَيْن الكَلام والصمت، وذلكَ عند التوَغُّل في كلام الصَمْت، في لا- يَقِين المَعاني، إذْ لَيْس للصمْت مَنطق ثابت أو شِبه ثابت لِسانِيّ، لكَوْنه غَيْر مُسْتقِرّ في أنساق الجُمَل وعلامات الدوال ودلالات الكَلمات وَتِدْلالاتها، وإنّما هُو دالّ بِالفصل والوصل بَيْن مُختلف الجُمَل، وَبِمُحايَثة اللَّا- مَعْنى للمعنى، وبإمكان المعنى أيضا وُحدوثه أو لِحُدوثه، إذْ هُو بِمثابة بَدْء الكلام وَمُنتهاه، وما يتحقّق مِنه في الأثناء وما لا يتحقّق لِيَظلّ مشرُوعاً دائما للفهم عند الإنصات إليْه، وآنَ تقبّله، وإنِ التبس في لُغة الشاعر ما بَيْن الكَلام والصَمْت: "الكَلام بَدْء والصمْت الّذِي لا ينفث في الروع لا يُمسكه اليقين..." (ص96). وَيُواصل خالد ردّاوي الكِتابة الشعريّة بانتِهاج سبيل ما بَيْن الصوت والصمت لِيَسْتبدّ في الأثناء أُسْلوب النفي بِالإثبات نازعا إلى الشِعر الخالص (الشعريّ) الّذِي عادةً ما تتُوق إليْه نُفوس كِبار الشُعراء، مدْفُوعاً بِالسُؤال وحارقه على برد اليقين إلى أقصى الحياة، مُؤثِراً العطش على رواء لا يتحقّق، بل لا يُمكن أن يتحَقّق: "لا ظمئي جفّ ولا الماء ارتوى مِنّي..." (ص122). فَبَيْن الصوت والصمت يتشكّل عالَمُ إنِّيّ خالد ردّاوي مُتّخذا له مِن الشعر، ولغة الشعر، أداةً لِمُغالَبَة قُصور اللُّغة عن البوْح بعميق الحالات والمُلتبس مِنها، مُتَطلّعا بِطموح كبير إلى الشعر الخالص، كما أَسْلفنا، مُتَّخذا له صِفة "التضاؤل" أو قِناعه لِيَتخفّف مِن أوْهام عَدِيدة، مُسْتفيدا مِن نُقصانه. 4- الباب الرابع: "رغبةٌ بلا يَدَيْن". فَضاءٌ آخر شِبْه مُعتم مُضِيء يتبدّى في عالم الشاعر، سَكنِه الخاصّ الجُوانِيّ، ذاك المُسَمّى رغبةً. فَمُختصَر الإنّيّ المُكَثّف ومبعث الإرادة وَقُوّة الحياة ماثلة في الرغبة تحديدا. إلَّا أنّ هذه الرغبة، وإنْ هِي دَلِيل على مَوْجُودِيّة الكائن (إنّيّ الشاعر)، فهي منقُوصَةٌ شبه مُعَطّلة، "بِلا يَدَيْن". وَدَلالةُ هذه الرغبة تُحَدّ بِمُطلق الحياة، وبِالدَلالات الحافّة بها نُزوعاً إلى تجسيدها بِالماء والنار و"دانتيلّا الحنين" و"النور" وشفاه عطشى" و"خيال المُوسيقى" و"الظلال" و"فستان يُجرجر بياضه على أرْض..." هِي رغبةٌ مُلِحّة تنزع إلى التَحَقّق، حُلميّة، جامحة، مُجَنِّحة، استِيهاميّة تتّخذ لها أشكالا عِدّة عند إغماض العينَيْن. وهي إلى ذلك مُختصَر حال الكائن الجنسيّ الناقص الّذِي لا يمتلك في الواقع إلاَّ مُنتصف رغبته، إذْ لا تَحقُّق لاكتِمال هذه الرغبة إلّا بِالمُنتصف الآخر، وهي رغبة محكُومة بِالموْت، بِفِعْل إنفاد القُوّة، إنفاد حياة الكائن، مُنذ لحظة اللِّقاح الأَوّل إلى آخر نبْض في عُمُره. وإذَا الرغبة النصفيّة هي مِن النُقصان وإليْه الّذِي يظهر أيضا في "نِصف الذاكرة" و"نصف الاشتِهاء" يُحَتّم الوهم والاستِيهام أحيانا كثيرة في واقع الانفراد، بِكَثِيف دالّ "العُزلة": يُتْم دائم، وارتِغاب دائم، ووهْم واستِيهام دائمان، واستمرار فيهما بِدافع الرغبة في الحَياة. وما الحَياة، بِناءً على السابق، إلَّا عنوان مُختصَر لِما هُو بالغ الوُضوح حَدّ الغُموض، وبالغ الغُموض حَدَّ الوُضوح أحيانا، بِما أَمْكن اعتباره سطحِيّةً عميقة لا تحتمل إلَّا حِكمة المُحايِث وِفق علامات- رُموز دالّة عليْها:" لَيْل، عصافير، وَحَل، جِدار، عنكبوت، مُوسيقى، وردة، ريح، كمنجات، غُربة، سراب، صباح، صمت، شوْق، رغبَة، وَطَن، جُنون، شِعر...، وقد حرصَ الشاعر على تقديمها مُعَرَّفَةً. وإلى ذلك فالرغبة مُتَجَدِّدة بالامْتِلاء والفيْض، تَشَبُّهاً بِالماء وبالقصيدة أيْضا، إذْ هِي في منظُور الشاعر رغبة- قصيدة أو قصيدة- رغبة وارْتِحال في الزَمَن وخارج الزَمَن بِاللَّا- نِهائيّ ودَيْمومة التِكرار الأَبَدِيّ والجُنون أَيْضاً حِينما يصطدم منطق اللُّغة بِتَوَهّج الرغبة وتدَفُّق الحَياة، فَيُغالب الشاعر عجزه الّذِي هُو مِن عَجْز اللُّغة مُتَوَسّلا بالرغبة ذاتها، وبِالحَياة ذاتها أَيْضاً، مُسْتعينا بالحدْس (حدْسه) على بُهمة الفراغ: "لِي عتبة أتعثّر فيها كُلَّ يَوْم وأقف مكتُوف المَسافة... لا اللُّغة أخذت بيدي ولا الرُؤيا تخطّت حاشية الفَراغ" (ص163). 5- مِن قبيل الخاتمة: سُؤال مَآل الكِتابة- مَآل الحُلم. هِي خمْسة أبواب، إذنْ، آخرُها "بابٌ مُوارب". وَكَأَنّنا عِند إنهاء التنقّل بَيْنها، مُرورا مِن مَوْقع إلى آخر، نتمثّل سِجْناً- حياةً أو حَياةً- سجناً. والمَكانُ، هذا المَكان، المَوْصُوف شِعرا دَورانِيّ مَتاهِيّ، إذْ قد يَعُود بنا الباب الأخير إلى الباب الأَوّل، وفي ذلك ما يُجَوّز قراءَة هذه المجموعة بِحَرَكة عكسيّة، لِيَتشكّل السُؤال في الاتِّجاهيْن ويكتمل بِشتات الإنّيّ و"تهشّم جرّة الأحلام": هل بالاستمرار في تَوسيع الرُؤية بالنظر في الكُلّيّ كَوْناً/أكواناً، طَبِيعةً، وُجوداً، عَدَما، عِشقا أم بالنظَر في المُتَعَدّد أجزاء، وذلك بِالتَطَلُّع إلى مرايا الداخل حَيْث ترْتسم ظِلالُ أدَقّ حالات النَظَر الجُوانِيّ ؟ فهذا السُؤال هُو سُؤال الشِعْر والشُعراء الأساسِيّ عامَّةً عبْر مُختلف التجارب والعُصور، والحَسْمُ فيه شبه مُستحيل إلى اليوْم، إذْ كيْف للفصل أن يكون حاسما جازما بَيْن وقائع العالم الخارجيّ وأشيائه وبيْن ظلال العالم الجُوانِيّ؟ وَكَيْف لِلُّغة وَلُغة الشِعر أن تشتغلا معا بِالمُشترك القائم بَيْنهما؟ وهو سُؤال خالد ردّاوي المُحيّر له تخصيصا، الماثل بِقُوّة في هذا المُنجَز الشعريّ، وإلى ذلك فهو المُحَفّز المرْجعيّ له على الكتابة الشعريّة وَلَعلّه يُمَثّل أُفُقًا لما سَيُبْدعه في قادِم الأَيّام... *خالد ردّاوي: "المُتضائل"، تونس: دِيار للنشر والتوزيع، 2020.