كان استقلال القضاء مطلبا قديما من القضاة والمحامين وللمتقاضين على حد السواء لأنه الضمان الوحيد لإقامة العدل وانتشار العمران كما قرره ابن خلدون في مقدمته المشهورة. وقامت ثورة الحرية والكرامة عندنا وتعرضت بعض المحاكم التونسية الى الحرق والتدمير مثلما كان الحال لمراكز السيادة التي كرهها التونسيون لما نالهم منها من تجاوزات، ولم يسلم الحزب الحاكم وفروعه في الجهات من حرق واتلاف الأرشيف والتهجم على المسؤولين فيه وشيطنتهم أجمعين. وانتخبنا مجلسا تأسيسيا لصياغة دستور جديد، وافردنا السلطة القضائية بباب خاص مثلما كان للسلطتين التنفيذية والتشريعية واحدثنا للقضاء مجلسا أعلى خاصا به منتخبا ومستقلا ماليا وإداريا وليس لوزير العدل أي سلطة عليه، وبقي وزير العدل محتفظا برئاسة النيابة العمومية، ولكنه بات يستعمل حقه ذلك باحتشام شديد، رأيناه كيف كان موقفه سلبيا في بعض القضايا وكان يتحجج باستقلال القضاء حتى كدنا نجزم بأنه استقال من دوره الذي أعطاه له القانون. ورأيناه اخيرا في الازمة التي حصلت هذه الأيام بمناسبة خطا طبي تمثل في إجراء عملية قيصرية لامرأة كانت مهددة في حياتها لو تأخر ذلك الإجراء الذي تم فيه التضحية بالجنين، لم يتيسر الإبقاء عليه حيا وكان في شهره السادس، وبالرغم من المحاولات التي قام بها الفريق الطلبي بمستشفى فرحات حاشد، واتهمت الطبيبة المباشرة من طرف والد الجنين بالتقصير. لم يغفل الإعلام عن تلك القصية وكبَّرها وجعل منها فضيحة مما دفع بالنيابة العمومية الى إحالة الطبيبة المعنية على قلم التحقيق الذي لم يتأخر بدوره وقرر إيقافها في الحين، وقبل أن يتأكد من التقصير، كان علي حاكم التحقيق إبقاءها في حالة سراح حتى يقرر أهل الخبرة تعمد التقصير، وخاصة بعدما تأكد من أن لها عنوانا قارا ويمكنه استدعاءها فيه. لقد اعتمد القاضي في قراره ذلك على الاستثناء الذي يسمح له بالإيقاف وترك القاعدة التي توجب ابقاء المتهم في حالة سراح، بذلك فوقع في الخطأ الذي يشبه ما اتهمت به الطبيبة ونسي ان للإنسان حقوقا يكفلها الدستور، لقد عرض بتسرعه ذلك سمعة القضاء واتُهم بالإفراط في السلطة وأعادنا لممارسات العهد الماضي الذي قامت عليه الثورة وتهجم الثائرون فيها على المحاكم اشارة الى تجاوزات بعض القضاة الذين كانوا يقضون بالأوامر وليس بالقانون. واستغلت الحادثة وسائل الاعلام التقليدية والافتراضية وجعلت منها قضية أجبرت القضاء على التراجع في قرار حاكم التحقيق حالا والاذن بسراح الطبيبة الشابة التي باتت تعيش لمدى حياتها كابوسا لن ينتهي. ووقع القضاء في التسلل وكانت له ضربة قاسية وطعنا في مصداقيته وقدرته على الاستقلال الذي كانا ننشده. وأنا بحكم انتسابي للقضاء وفي خانة الدفاع تأسفت لذلك الإجراء الذي جازف أحد القضاة بدون ترو أو احترام للإجراءات واتخذه، وكان عليه التقيد بالقانون وروحه ولأن الايقاف هو استثناء بينما القاعدة توجب إبقاء المتهم في حالة سراح ما لم تستوجب مصلحة البحث أو الخوف من المتهم أو الخوف عليه. ولكنه بتجاهل بعض القضاة لذلك الإجراء الوجوبي المدون بمجلة الإجراءات الجزائية خسر القضاء سمعته والشك في استقلاله. وأقول بالمناسبة أن مثل ذلك التساهل في الإيقاف الذي تعود عليه بعض الحكام عندنا سابقا أفقد للسجن هيبته وساهم في تكوين مجرمين بالرغم عنهم، رأينا ذلك في ميدان الصكوك بدون رصيد وقد باتت طريقا للابتزاز بوقوف النيابة العمومية الى جانب المستفيدين منها وتهديد مصدريها بالسجن والخطية، بالرغم من أنها من المعاملات التجارية ولا دخل للنيابة فيها، ومثل ذلك في المخدرات التي كانت سببا في امتلاء السجون وتحطيم مستقل أجيال من الشباب أصبح البعض منهم إرهابيين. كل ذلك أثر على المجتمع التونسي وبات يهدد استقلال القضاء الذي نطالب به جميعا.