إذا كان الإنسان مدني بالطبع فإني مديني من النبع. ولدت بمدينة أريانة مدينة الورود والرياحين وترعرعت في مدينة تونس مدينة العطر والصالحين. وأحد هؤلاء أو لعله إمامهم هو محرز بن خلف الذي نشأ بدوره في أريانة منذ أكثر من ألف عام ولكنه غادرها آسفا غضبان فتقبّلته تونس وولّته سلطنتها وأقام له أهلها مقاما أضحى شعارا لبلدية الحاضرة. نعم أنا مشتاق وبي لوعة فأنا أحنّ إلى هذه البقاع كلما وطأتها قدماي إلا وانتفض خاطري واهتزّت خلجات قلبي المشتاق إلى زمن ولّى وانقضى. لقد كتبت ذات يوم في ركن " شذرات " في جريدة الصريح : " فأنت لمّا تمرّ على ديارها يكفيك أن تحرّك حاسّة الشم حتى تدرك أنك في فصل أو موسم معيّن فرائحة الملوخية تدلّك على أنّك في رأس العام والسك المقلي دليل ساطع على موسم الصيف وهكذا دواليك فرائحة "البهارات" تصعد إلى أنفك –رغم أنفك ! ينطلق مسلكي المعطّر من نهج سيدي بن عروس الذي أصبح الآن قبلة الزوّار لما يعجّ به من معالم، فنهج القصبة حيث رائحة السحلب المفوّح بالسكنجبير فسوق البلاغجية حيث رائحة الجلود فسوق الفكّة حيث أكوام الفاكهة على مختلف ألوانها ومذاقاتها وبالقرب منها تنساب رائحة النعناع والنرجيلة، ثمّ سوق البلاط حيث أصناف البخور والأعشاب - وأشياء أخرى مجففة - فتنطلق رائحة الوشق والداد والند والعرعار والجاوي وحبّ الرشاد فتلفحك حتى وأنت تهرول قاصدا متجر أبيك حيث الزرارع على مختلف أنواعها ومستلزمات العرائس من طفل وحنّة وعفص وحديدة وشوش ورد وحبّة حلاوة. وحينما أقفل عائدا إلى الهضاب أمرّ من نهج الجزيرة حيث رائحة القهوة المقلية ثمّ أعرّج على الصبّاغين حيث روائح الشوى والخبز المعطّر بحبات البسباس والسينوج ومن ثمّة أستحثّ الخطى ميمّما جامع الزيتونة فتلفني ريحه العطرة فسوق العطارين فأنتشي بطيوبها المبثوثة عبر مستخلصات الورد والياسمين والنسري والنارنج وكذلك العنبر وعود القماري. " فلنتحدّث الآن عن منظومة الأسواق في مدينة تونس قبل الولوج إلى سوق الفكة. إنّ وجود منظومة وظيفية داخل مدينة تونس تزاوج بين الجامع والمنطقة الوسطى للأسواق كثيرا ما لفت انتباه المؤرخين والمستشرقين Le Binôme religion-commerce . ليس هناك خطّ تماس بين الأسواق والجامع بل هناك إحاطة الجامع من طرف الدكاكين التي تغطّي جدران المبنى الديني، ليس هناك فضاء عمومي يبرز الجامع لا شيء يبرز من الجامع إلا الصومعة فهي المنارة الوحيدة التي تعلن عن وجود المعلم الديني. هذا ما كتبته الباحثة Lucette valensi في أثرها Le Maghreb avant la prise d'Alger الصادر سنة 1969 بباريس عن دار flammarion وهذا ما ردّده وأكده Serge Santelli مدير الدراسات المعمارية في مدرسة الفنون الجميلة بباريس في كتابه عن مدينة تونس الصادر عن منشورات Demi-cercle عام 1995 بباريس. ويضيف Santelli " إنّ التمييز بين التجارة والسكن هو أمر يحظى بالإجماع، بينما هناك نظر في مسألة مركزية الدين والتجارة في المدينة العتيقة، إذ أنّ إحاطة الجامع بالأسواق إنّما هو استغلال غير اقتصادي وغير مجدي للمجال." ورد في كتاب تونس في عهد المراديين Tunis sous les Mouradites ل André Raymond منشورات سيراس 2006 صفحة 251 : « Les 34 marchés de la région centrale représentaient les marchés les plus spécialisés de la ville avec une forte attraction des souks les plus importants vers le voisinage de la grande mosquée. Parmi les souks couverts qui étaient établi le long des rues extérieures de la mosquée on trouvait les Attarine, les marchands des tissus Souk el Koumach et les marchands des fruits secs El Fekka spécialisés qui comptaient parmi les activités les plus riches de la ville ». يقول الدكتور عبد العزيز الدولاتلي في كتابه المرجعي " مدينة تونس في العهد الحفصي" الصادر عن دار سيريس للنشر سنة 1981 ص69 : " وإلى عهد ليس ببعيد كانت الصناعات الثمينة متجمّعة حول الجامع الأعظم في حين أبعدت المهن والصناعات التي تسبّب التلوّث والإزعاج إلى أطراف المدينة فتجد حول الجامع وهو المركز العلمي والديني سوق الشمّاعين وسوق الكتبية والعطّارين وكلّها تزوّده أي الجامع بما يحتاج إليه من شموع وعطورات وكتب". ولكن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا الآن ما هو سرّ انتصاب سوق الفكة قبالة الباب الرئيسي للجامع الأعظم ؟ هل اقترن ذلك بالاحتفالات بمناسبة شهر رمضان والتي تبلغ ذروتها ليلة السابع والعشرين منه وإقبال الحضرة العليّة ومن بعض أصحاب الجاه والمال والقدرات السخيّة والتطلعات الشهية. إنه من نافلة القول أنّ الأنشطة الاقتصادية والصناعية والتجارية لا تخضع إلى سلّم قيم اجتماعية من ذلك أنّ الدائرة الأولى حول الجامع الأعظم تتمثل في أسواق يتعاطى فيها التجار أنشطة تعتبر نبيلة. وبينما تحتمل الأنشطة الأخرى الدوائر الأخرى المتتالية. وهكذا يحتلّ سوق العطارين وهو الذي أنشأه أبو زكرياء الحفصي في القرن الثالث عشر والشماعين والصاغة والكتبية المجال الملاصق لجامع الزيتونة، أمّا سوق الفكة فهو الذي يفتح عليه الجامع، هذا الجامع الذي يحمل في دفاتر البلدية للمدينة المتفرعة عن بلدية الحاضرة عنوان سوق الفكة. ولكن ما الفكّة؟ هي كلمة مشتقة من الفاكهة أي أنه على الأرجح وقع إدغام الهاء مع تشديد الكاف. الفاكهة جمع فواكه الثمار كلّها، ويقال لبائع الفاكهة:الفاكهاني. والمعلوم أنه يقال لمن أكل الفاكهة: تفكّه ويقال له الفَكِه. والفكه هو أيضا من كان طيّب النفس مزّاحا ضحوكا مضحكا، ومنها بالطبع الفُكاهة، والفكيه وهو ما تمتّع به من حديث ومن مُلح الكلام وأطربه. يقول العلامة محمد الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير": . " اسم لما يؤكل تفكها لا قوتا مشتقة من فكه كفرح، إذا طابت نفسه بالحديث والضحك ، قال تعالى: " فضلتم تفكّهون" لأن أكل ما يلذّ للأكل وليس بضروري له إنّما يكون في حال الانبساط . والفاكهة: مثل الثمار والبقول من لوز وجوز وفستق. وعطف على الفاكهة النخل وهو شجر التمر وهو أهم شجر الفاكهة عند العرب الذين نزل القرآن فيهم ، وهو يثمر أصنافا من الفاكهة من رطب وبسر ومن تمر وهو فاكهة وقوت. وفي هذا المقام أستحضر ما قد علمه من قبل العلامة الجليل من الملحة التي أوردها ابن منظور في قاموسه عند الحديث عن الفاكهة وفي هاته الآية بالذات سببه أنه قال: الفاكهةُ: معروفةٌ وأَجْناسُها الفَواكهُ، وقد اختلف فيها فقال بعض العلماء: كل شيء قد سُمِّيَ من الثِّمار في القُرآن نحو العِنَب والرُّمّان فإنا لا نُسَمِّيه فاكهةً، قال: ولو حَلَفَ أَن لا يأْكل فاكهة فأَكل عنباً ورُمّاناً لم يَحْنَثْ. لقد ورد ذكر الفاكهة في سور عديدة من الكتاب العزيز ففي سورة الرحمان: " والأرض وضعها للأنام. فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام " الآية 11. وفي سورة يس: " إنّ أصحاب الجنّة اليوم في شغل فكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون" (الآيات 55-56-57). وفي سورة الدخان: " ونعمة كانوا فيها فاكهين (27) يدعون فيها بكلّ فاكهة آمنين (55) " وفي سورة الصافات: " أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون" الآية 42 وفي سورة ص: " وإنّ للمتقين لحسن مآب جنّات عدن مفتّحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون بفاكهة كثيرة وشراب " الآية 51. وفي سورة عبس: " وحدائق غلبا وفاكهة وأبّا " الآية 31 وفي سورة الطور: " وأمددناهم بفاكهة ولحم ممّا يشتهون " الآية 22. " فيهما من كلّ فاكهة زوجان" (الآية 52). ويقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره المشار إليه آنفا: " وأمّا تثنيته زوجان فإنّ الزوج هنا النوع، وأنواع فواكه الجنّة كثيرة. ولعلّ تثنيته زوجان لكون الفواكه بعضها يؤكل رطبا وبعضها يؤكل يابسا مثل التمر والزبيب وأخص الجوز واللوز. وفي نفس السورة : " فيها فاكهة ونخل ورمّان " الآية 68. " وفاكهة ممّا يتخيّرون " الآية 20 " وفاكهة كثيرة " الآية 32 وفي سورة المرسلات: " إنّ المتقين في ظلال وعيون وفواكه ممّا يشتهون " الآية 48 .