في موكب انتظم صباح أمس بالقصر الرئاسي بمناسبة الاحتفال بالذكرى 58 للاستقلال توجه رئيس الجمهورية للشعب وإلى الحضور بكلمة جاء فيها: «نحتفل اليوم بالذكرى الثامنة والخمسين لاستقلال بلادنا. إنها فرصة لاستحضار ذكرى آلاف مؤلفة من المناضلين والمساجين والمنفيين والشهداء الذين ندين لهم بهذا الاستقلال ونحن هنا لنحيّ ذكراهم ونعبر لهم عن امتناننا. إنها فرصة لاستحضار ذكرى ودور شخصيات فذّة: الحبيب بورقيبة، المنصف باي، فرحات حشاد، الهادي شاكر، صالح بن يوسف وآخرين لا تنتهي بهم أطول قائمة. إن هذا اليوم فرصة لتذكير الشباب بأن هذا الاستقلال الذي ينعمون به لم يأت بالصدفة أو هدية من السماء بل أن وراءه تضحيات اجيال وأجيال من التونسيين. الأهمّ من هذا فهم هذا الشباب أن الاستقلال ليس محطة في التاريخ نصلها ونبقى فيها آمنين. إنه دوما مشروع ناقص لا نهاية لتطويره والدفاع عنه وهو مهدّد في كل لحظة. مما يجعل يوم 20 مارس 1956 بداية طريق لا نهايته. إن الاستبداد البغيض الذي عشناه تحت المخلوع لم يصادر حقوق وحريات التونسيين فحسب ولم يسرق ثروات هائلة لو وظفت في مجالها لما عرف مئات الآلاف من التونسيين حالة الفقر المشين الذين هم عليه اليوم. لقد ارتهن القرار الوطني ووضعه في أياد أجنبية مقابل دعم بقائه في الحكم. هكذا كان الاستبداد عدوّ استقلال الدولة واستقلال الشعب في آن واحد. لقد جاءت الثورة المجيدة ، ثورة 17 ديسمبر 2010 ، لتعيد للاستقلال ألقه فهذه الثورة كانت ثورة دون أدنى دعم من أي طرف أجنبي.. ولأن السلطة التي انبثقت من الثورة هي سلطة ديمقراطية وأن الذين وصلوا إلى سدة الحكم لا يدينون به إلا لشعبهم وليسوا مسؤولين إلا أمامه، فإن الثورة ركّزت استقلال البلاد أكثر فأكثر. لكن لا يجب أن نغترّ فالديمقراطية شرط ضروري للاستقلال لكنه ليس شرطا كافيا. عن أي استقلال نتحدث ونحن دون أمن غذائي ونحن لا نتحكّم حتى في بذورنا؟ عن أي استقلال نتكلّم ونحن نبحث عن القروض لسدّ عجز كبير في ميزانيتنا نتيجة تعطّل آلة الانتاج ورداءة مردودها أساسا لانهيار قيم الجهد والعمل المتقن والانضباط والصبر ؟ عن أي استقلال نتحدّث وقرابة عشرين في المائة من شعبنا يعيشون تحت خط الفقر وجهات مازالت تنتظر منذ نصف قرن أن تتمتع هي الأخرى بثمرة هذا الاستقلال؟ أخيرا لا آخر عن أي استقلال نتحدّث في عالم متزايد الاندماج والارتباط في كل المجالات وبالتالي كل الأطراف بحاجة لبعضها البعض؟ ما يجب أن نقبله جميعا أنه لا استقلال فعلي لشعب إلا إذا كان سيّد مصيره بالديمقراطية داخل حدود وطنه... أنه لا استقلال فعلي لشعب إن لم يؤمّن حاجياته الأساسية من الغذاء والبذور والطاقة والماء والأدوية الضرورية.. أنه لا استقلال لشعب إن لم تكن موازناته المالية مضبوطة تغطّي فيها صادراته ما يورّد من سلع ومن خدمات...أنه لا استقلال لشعب لم يبلغ قدرا كبيرا من التعلّم ولا يشارك في إثراء ثقافة البشرية... أنه لا استقلال لشعب لا يؤثّر بقدر ما يتأثّر والتنسيق والترابط بين الشعوب الذي تفرضه التكنولوجيا لا يترك لأحد إلا هذا الخيار أو التبعية. أيها المواطنون والمواطنات دفع آباؤنا وأجدادنا الثمن الباهظ لوضع أسس هذا الاستقلال عندما خلّصوا الدولة الوطنية من التبعية للدولة الأجنبية. دفع آباؤنا وأجدادنا الثمن الباهظ لوضع أسس هذا الاستقلال عندما خلّصوا الدولة الوطنية من التبعية للدولة الأجنبية. دفع شبابنا الثمن الباهظ للتخلص من الدولة الاستبدادية التي زاغت عن مهمة الدولة الوطنية. يدفع اليوم شبابنا من الجيش والأمن الثمن الباهظ للحفاظ على الدولة الديمقراطية وتمكينها من مواصلة المشروع الكبير... الاستقلال المتزايد توسعا وعمقا ورسوخا. مثل هذا الاستقلال هو الذي يبنيه تشبّع المواطنين بقيم العمل والعطاء والجهد والبحث والطموح وروح التجديد والخلق والإبداع...هو الذي يقويه تحرّر الملايين من هذه الآفة المشينة التي اسمها الفقر والتي لا معنى للكرامة والحرية بوجودها... هو الذي سيحفظه انتقال تونس إلى قوة اقتصادية حقيقية ومنارة ثقافية في وطننا العربي. قد يبدو من قبيل المفارقة القول إن هذا الاستقلال المتزايد توسعا وعمقا ورسوخا بأمسّ الحاجة للاتحاد المغاربي والاتحاد العربي وهي مفارقة فقط بالنسبة لمن لا يفهم أن الاستقلال بما هو قدرة شعب على تقرير مصيره والمحافظة على ثرواته وضمان مكانته بين الأمم، لم يعد ممكنا إلا في إطار التجمعات البشرية الكبرى التي تتكاتف فيها شعوب حرّة للحفاظ معا على حريتها وشروطها. أيها المواطنون والمواطنات إنني أجدّد القول أن تونس بخير بفضل دستورها التوافقي وجيشها الأبي وأمنها الجمهوري ومجتمعها المدني الحيّ وطبقتها السياسية المسؤولة وخاصة شعبها الذكي المعتدل الرافض للعنف وكل أشكال التعصب الديني والسياسي الحريص على أثمن ما يملكه أي شعب: وحدته الوطنية. نعم سنتمّم على خير بقية المرحلة الانتقالية وحالما نكمل الانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية فإننا سنجد أمامنا الطريق مفتوحة على آفاق واعدة تعمّق وترسّخ أكثر فأكثر هذا الاستقلال الذي نحتفل اليوم به مرة أخرى كمشروع متواصل يسير في الاتجاه الصحيح وإن عرف كم من تعثّر وكم من كبوات. في هذا اليوم الذكرى أدعو كل التونسيين والتونسيات إلى مزيد من العمل والأمل لكي نحتفل السنة المقبلة بتقدمنا خطوة جديدة على الدرب الطويل الذي سيجعل منا شعبا حرا تخدمه دولة فعّالة تحافظ على مصالحه المشروعة في إطار تعاون متزايد الاندماج مع أشقائنا المغاربيين والعرب، كل هذا في خدمة السلام والتقدّم لكل الشعوب والأمم ومن موقع الندية والمسؤولية المشتركة. وفقنا الله جميعا وجعلنا جديرين بتضحيات الآباء والأجداد وبآمال الأبناء والأحفاد.