ريبورتاج: بسمة الواعر بركات تعيش أمهات تونسيين مفقودين في إيطاليا معاناة خاصة... فلا دموعهن جفت من فرط البكاء ولا قلوبهن يئست من طول الانتظار...لا قبورا يزرنها ولا عزاء يقمنه فلا البحر لفظ جثث أبنائهن ولا السلطات توّلت طمأنتهن.... وما يزيد في حرقتهنّ ولوعة قلوبهنّ أنّ المعلومات بخصوص أبنائهن متضاربة ،فمع كل خبر يأتي من هنا أو هناك يتجدّد الأمل، وأحيانا أخرى يدبّ اليأس وهنّ يعشن منذ سنوات نفس المعاناة وفي أذهانهن عدة سيناريوهات. أسئلة عديدة لم يجدن لها إجابة تشفي غليلهن: هل أبناؤنا أحياء أم أموات؟ وإن كانوا أحياء فأين اختفوا طيلة هذه السنوات؟ وإن ماتوا فأين جثثهم وماذا عن المكالمات التي تصل من ايطاليا؟... إبان الثورة التونسية، «حرق» أكثر من 22 ألف شاب تونسي إلى جزيرة «لمبيدوزا» الإيطالية بعدما عرفت تونس حالة إنفلات كبرى نجم عنها تدفق آلاف المهاجرين باتجاه «الجنة الموعودة»، بعضهم نجح في الوصول إلى الجزيرة وكثيرون لم يحالفهم الحظ فغرقوا في البحر المتوسط ...ولكن لا يزال عدد آخر في عداد المفقودين فلا المراكب التي أقلتهم ظهرت ولا جثثهم طفت على السطح. وحسب وزارة الخارجية يقدر العدد الرسمي للمفقودين بحوالي 501 تونسي ولكن العدد قد يكون أكبر بكثير حسب عديد الجمعيات التونسية وأنه قد يصل إلى نحو 1500 مفقود من 2011 إلى حدود 2014 . «حامد» والد أحد المفقودين في إيطاليا ،قادنا إلى منطقة «الكبارية» وتحديدا إلى حي النور قائلا إنّ التهميش والفقر والبطالة دفعت العديد من الشباب إلى الهجرة غير الشرعية حتى ان نسبة المفقودين بهذا الحي مرتفعة جدا . كان حامد على متن دراجته النارية، وتبعناه بالسيارة في اتجاه «الكبارية»...وصلنا إلى «حي النور» لاحظنا أن البنية التحتية سيئة للغاية وما زاد الوضع سوءا على سوء تهاطل كميات من الأمطار مما جعل المياه تتراكم فتغمر الطرقات، ورغم كثرة المطبّات حاولنا تحسّس الطريق للقاء أمهات بعض المفقودين في إيطاليا. أول ما اعترضنا، البناء الفوضوي... كانت البيوت متلاصقة، وبعض الفضاءات المهجورة كتبت عليها بعض الشعارات: «ثورة... كرامة وطنية «...» التشغيل استحقاق» ... في الحقيقة لا شيء يوحي بأننا في مكان متاخم للعاصمة ولا يبعد عنه سوى بضعة كيلومترات. صور وألم في بيت السيد «حامد»إجتمعت أمهات عديد المفقودين تعوّدن الحضور هنا لسرد قصصهن والبوح بما يخالج أفئدتهن، حملت كل واحدة منهن صورة لإبنها المفقود احتضنتها بشوق كبير للقائه ولكن أيضا بلوعة وحسرة مصحوبتين أحيانا بالدموع في هيئة توحي بأنّ وراء كلّ صورة مأساة وحكاية عنوانها الألم.. والأمل. لقاؤنا الأول كان مع خديجة البوغانمي والدة منية العرفاوي، منية التي «حرقت» لإيطاليا رفقة ابنها شهاب. تقول الأمّ خديجة: «لقد كانت ابنتي تعيش حياة طبيعية وظروفها المادية عادية، ولكن زوجها دخل السجن فحصل الطلاق ووجدت نفسها رفقة طفلين ولا أحد يمكنه أن ينفق عليهم». وكشفت خديجة أن جميع الأبواب كانت موصدة في وجه ابنتها منية البالغة من العمر 34 سنة وأن ذلك جعلها تُقرر الهجرة مع شباب الحي، وأكدت خديجة أن ابنتها تركت ابنها الصغير البالغ من العمر 9 سنوات وحملت ابنها شهاب البالغ 17 سنة ثم توجهت إلى «صفاقس» وهناك صعدت في مركب رفقة عديد الشبان . وأضافت خديجة أنها مرضت جراء اختفاء ابنتها وحفيدها وأنّها تعيش على أمل لقائهما، مؤكدة ان ابن منية الصغير دائم السؤال عن والدته وشقيقه. وقالت خديجة: «أبكي ليلا نهارا.. لقد شاهدت صورة ابنتي ترتدي معطفا ابيض وهي رفقة ابنها في المركب بالقرب من السواحل الإيطالية ولكن اين اختفت ؟» مضيفة: «لقد نمت في الشوارع وبالقرب من الوزارات عسى أن يستمعوا إلى صراخي فقلبي يخبرني أن ابنتي حية ترزق، أريد فقط أن أعرف مصيرها قبل وفاتي». وأضافت: «لو ماتت في ايطاليا فأنا أريد الحقيقة ولا شيئ غير الحقيقة ...لقد سمعنا عدة حكايات عن وجود مفقودين في سجون سرية وتحت الأرض... الإنتظار آرقنا وأتعبنا وأنهكنا... وحياتنا عذاب في عذاب فلا الأعياد مهمة ولا المناسبات تعنينا...». معاق من بين «الحارقين» بلحسن الرحيمي (23 سنة) يعاني من إعاقة جسدية منذ الولادة، تقول والدته فتيحة: «ظروفي المادية صعبة للغاية، فزوجي مريض وأنا أشكو من ضيق التنفس وقد سئم بلحسن البطالة وهو دائما يردد «القوت أوالموت سواء»... وأضافت: «لقد هاجر إبني بطريقة غير شرعية رفقة أبناء الحي ومنذ شهر مارس انقطعت أخباره ولا نعرف مصيره واختفاءه زاد أوضاعنا سوءا على سوء». وقالت : «نريدهم أحياء أو أمواتا لأن دموعنا جفت وقلوبنا تمزقت... لا نحن أقمنا العزاء ولا سلّمنا بموتهم؟». من جانبها ،أكدت محبوبة أنها رأت في تسجيل فيديو ابنها صابر بالقرب من السواحل الإيطالية، مضيفة أن ابنها كان يعمل كحارس في المقبرة مع والده ولكنه ذاق ضرعا من العمل في المقبرة فقرّر الهجرة مع شباب الحي . أما جنّات الرحيمي ،والدة الشاب وسام ،فتقول ان ابنها كان يبيع النفايات وكان يدّخر أمواله التي يجنيها من القمامة لكي يسافر بها في «مراكب الموت». وأضافت انه في يوم 29 مارس 2011 أي بعد شهرين من اندلاع الثورة هاتفها ابنها ليقول لها: «أريد دعواتك يا أمي فأنا في منطقة صفاقس وها أني وسط المركب باتجاه لمبيدوزا». وأضافت جنات أنّ هدير أمواج البحر لا يزال يرّن في أذينها... مؤكدة ان هذا التاريخ سيظلّ راسخا في ذاكرتها... وقالت جنّات: «لدي أمل كبير بأن يكون إبني حيّ يرزق، لقد رأيته في شريط فيدو بثته القنوات الإيطالية لقد كان بالقرب من السواحل الإيطالية، إحساسي كأم يقول لي انه حي يرزق». فقدت لذّة الحياة ... وأكدت جنات أنها مرضت وأن حياتها تحطمت وتحولت إلى جحيم مشيرة إلى أنها كثيرا ما تستيقظ ليلا وأن الأرق يسيطر عليها ،وقالت انها تعاني اليوم من عديد الأمراض وتعالج عند طبيب نفسي لأنها لا تريد أن تصدق انّ إبنها مات أو غرق في البحر حتى أنها تمنت مرارا الموت وحاولت الانتحار حرقا. واعتبرت أنه لم تعد لحياتها قيمة، مضيفة: «لقد مرت ثلاث سنوات ذقت خلالها كل انواع الالم ووتجرّعت من كأس المرارة» خاتمة بأنه أحيانا يصلهم خبر مفرح فتعم الزغاريد، ولكن عندما يشاع خبر على موت أولادهنّ يندبن خدودهن ولا يذقن الطعام لأيّام. الفقر والحاجة وراء الهجرة من جهتها قالت ربح بثوري والدة ابراهيم البالغ من العمر 17 سنة أن ظروف العائلجة تعيسة وأنّ ابنها كان يعمل في مصنع ولكن الفقر والحاجة دفعاه إلى الهجرة غير الشرعية. وقالت : «أتذكرّ كيف حمل ابني شهادة العلاج المجانية إلى المستوصف ،كان يعاني من آلام مبرحة في قدميه ولكنه شعر بالإهانة والذلّ فقرّر يومها الهجرة». وكشفت ربح أنهنّ عانين الويلات وأنهنّ كنّ يستيقظن منذ السادسة صباحا ويتوجهن إلى مقرات الوزارات المعنية عسى يشعر بمعاناتهن أحد . وقالت: «إحساس الأم لا يكذب... أبناؤنا لم يموتوا وقد رأينا صورهم في إيطاليا وكان الأمن الإيطالي يقدم لهم الماء ثم صعدوا على متن حافلات... فكيف يقولون لنا إنهم فقدوا، وأنّه لا أثر لهم؟». مجاراة أبناء الحي أمّا مباركة الرحيمي والدة العربي الفرشيشي فقد قالت إن ابنها البالغ 16 سنة هاجر في 29 مارس 2011 ،مضيفة أنها تعمل كمعينة منزلية وان الظروف الإجتماعية للأسرة صعبة للغاية، مبينة أنّ حُلم ابنها كان شراء حذاء رياضي مثل بقية أترابه. وأكدت أن ابنها كان يعمل حلاّقا ولكنه أراد تحسين ظروف الأسرة المادية والهجرة مع أبناء الحي مضيفة: «لقد وصلني اتصال هاتفي في 2012 حيث اخبرني المتصل انّه فاعل خير وأن ابني معه في بلجيكا ثم مرّر لي ابني على الخط قال لي: «أنا بخير» ثم انقطع الخط. في مستشفى الأمراض العقلية وكشفت مباركة أن حياتها انقلبت رأسا على عقب وأنّها تعالج في مستشفى الأمراض العقلية، مضيفة أنها لا تنام إلا بالدّواء. وقالت: «لقد جفّت دموعي من فرط البكاء ونصحتني الطبيبة بإجراء عملية». وأضافت لقد تعبنا لقد تعبنا ... فعائلتي تشتّت وحياتي دمّرت بالكامل من جرّاء حادثة فقدان «عربي». وتتذكرّ مباركة ان آخر الكلمات التي قالها لها عربي : «انا ميّت هنا أو هناك...». وكشفت انه منذ فقدان ابنها انقطع زوجها عن العمل وتدهورت أوضاع الأسرة أكثر. نفس المأساة تعيشها أيضا السيدة مليكة غانمي والتي تحدثت بحرقة عن ابنها أحمد وقالت: «ابني كان عاطلا عن العمل وقد قرر الهجرة مع أبناء الحي ...» مضيفة: «لقد تبخرّ أولادنا ...والله فقط يعلم مصيرهم؟». وزارة الخارجية:القضية لم تمت قال مختار الشواشي الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية إن الوزارة لم تتدخر أي جهد في القيام بما يمليه عليها الواجب، مضيفا أنه تم الإتصال بالسلطات الإيطالية ورفع البصمات ولكن لم يتم العثور على هويات المفقودين، وأكدّ انه تم رفع قرابة 285 لوحة «بصمية» وتقديمها إلى السلطات الإيطالية إلى جانب عديد الوثائق عسى أن يتم العثور على أيّة معطيات تفيد الأهالي في عملية البحث عن مفقوديها. وأضاف ان وزارة الخارجية نظمت عدة مقابلات بين العائلات والمجتمع المدني وذلك لجمع اكبر قدر من المعطيات اللازمة. وقال الشواشي: «هؤلاء هم تونسيون وقد طرقنا جميع الأبواب في محاولة البحث عنهم ونشعر بآلام الأمهات والأهالي وبحثنا لم يتوقف والقضية لم تمت». جمعية إنقاذ التونسيين: مطلوب تحركات سياسية من جانبه قال محمد إقبال من جمعية إنقاذ التونسيين العالقين بالخارج إن ملف التونسيين المفقودين في إيطاليا لم يتحرك بالنسق المطلوب، مضيفا أن المجتمع المدني لعب دورا هاما وأنّ التحرك يجب ان يكون سياسيا، مؤكدا ان هناك بطئا كبير في التعامل مع ملف المفقودين. وكشف انهم قدموا مراسلة رسمية إلى وزارة الخارجية بتاريخ 1 سبتمبر 2014 وأنهم إلى غاية اليوم لم يتلقوا أي ردّ. واعتبر إقبال أن الشهادات التي روتها أغلب الأمهات تطرح عديد التساؤلات ومن ضمنها أين اختفى هؤلاء الشباب ؟وأين هم طيلة هذه السنوات ؟. وأكدّ انهم يعتبرون أن هناك غموضا وألغازا لم تكشف عن هؤلاء الشباب، ملاحظا أن السلطات الإيطالية تتحصل من الإتحاد الأوروبي على منح تقدر ب60 اورو عن كل مهاجر مجهول الهوية ،في حين أن هذا المبلغ يتقلص إلى 29 أورو عندما يكون الشخص معروف الهوية، وكشف أنّ لدى الجمعية عدة معطيات تفيد بأنّ هناك تلاعبا بهويات «الحارقين» وأنّ السلطات الإيطالية غيرت اسم مهاجر غير شرعي لتمديد فترة سجنه في المعتقل وبالتالي الحصول على مبالغ إضافية . ولم يستبعد رئيس جمعية إنقاذ التونسيين العالقين بالخارج وجود سجون تحت الأرض أو معتقلات سرية، مشيرا إلى أنه تمّ اكتشاف معتقل تحت الأرض في اليونان يتعرّض فيه المعتقلون إلى التعذيب ويحرمون من الإتصال بذويهم . وقال إقبال: «الديبلوماسية التونسية بدت لنا ...عاجزة وندعو إلى خطوات أسرع وأكثر جدية».