بقلم: الأستاذ محمود داوود يعقوب (المستشار القانوني لجمعية كرامة وحرية) العدالة الانتقالية هي البديل الحضاري لعدالة المنتصر التي ترجع أصولها إلى أزمنة بعيدة والتي تجسدت في القرن الماضي من خلال محاكمات مجرمي الحرب في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ويعتبر مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم التي ما زالت غامضة أو ملتبسة خصوصاً لما يشوبه من إبهام في ما يتعلق بالجزء الثاني من المصطلح ونعني به «الانتقالية» فهل توجد عدالة انتقالية؟ وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية المرتبطة بأحكام القضاء واللجوء إلى المحاكم بأنواعها ودرجاتها؟ ففي تقرير للأمين العام السابق للأمم المتحدة يعرّف « العدالة الانتقالية» بأنها تشمل «كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفّهم وتجاوز تركة الماضي واسعة النطاق بغية كفالته للمساءلة وإحقاق العدل وتحقيق المصالحة» وربط كوفي عنان ذلك باستراتيجيات شاملة بحيث تتضمن الاهتمام على نحو متكامل بالمحاكمات الفردية ووسائل جبر الضرر وتقصي الحقيقة والإصلاح المؤسسي أو أي شكل يدمج على نحو مدروس هذه العناصر على نحو ملائم.كما وقع تعريف العدالة الانتقالية حسب وثيقة صادرة عن المعهد العربي لحقوق الإنسان في سبتمبر 2007: «دليل حول العدالة الانتقالية»، على أنها من المفاهيم التي قد تبدو للوهلة الأولى ملتبسة، لأن العدالة التي توصف بالانتقالية هي ليست من صنف العدالة التقليدية المرتبطة بالقضاء والمحاكم بأنواعها، لكنها تشترك معها في إرجاع الحق أو بعضه الى من انتهكت حقوقه لسبب من الأسباب لا سيما ما تعلق منها بالسياسية. أحياناً كان يطلق على هذا النوع من العدالة مصطلح « عدالة ما بعد النزاعات» وعلى أساسه تم وضع مبادئ شيكاغو التي أعدّت لتحقيق عدالة ما بعد النزاعات وتلك لا تعني سوى استراتيجيات مكافحة الإفلات من العقاب أو «العدالة الانتقالية» وهي عملية متعددة الأوجه تتجاوز النهج القانوني الرسمي لمفهوم العدالة المعروف. وتتطلب العدالة الانتقالية أيضاً تأمين استقلال القضاء ونزاهته والتحقيق والمحاكمة باحترام الإجراءات القانونية ومنع المحاكمات المتعددة للجريمة ذاتها وتأمين حماية الشهود وحماية الإجراءات الخاصة والموظفين، كما تستهدف بث الوعي لدى الجمهور. ولكن هل أن العدالة الانتقالية هي عدالة خاصة تختلف عن القواعد العامة للعدالة؟ رغم تعدد تجارب العدالة الانتقالية فإنه لا توجد صيغة محددة يمكن اعتمادها، حيث تم تطبيقها حسب خصوصية كل بلد، غير أن الهدف الأساسي لها جميعاً كان واحدا وهو نقل المجتمعات من تحت نير نظام استبدادي قمعي إلى نظام ديمقراطي، وتجاوز آثار جرائم مثل التعذيب والتطهير العرقي وتحقيق المصالحات الوطنية في تلك الدول وتمكين العدالة من استعادة دورها في بناء السلام والأمن الاجتماعيين. وقد انتجت حصيلة التجارب السابقة خمسة أسس مشتركة للعدالة الانتقالية، تتمثل في ما يلي: (1) الملاحقات القضائية لمنتهكي حقوق الإنسان، و(2) جبر الضرر وتعويض الضحايا والمتضررين من الأنظمة، و(3) إصلاح مؤسسات الدولة وخاصة العسكرية والأمنية والقضائية والمدنية التي ساهمت في تلك الانتهاكات، و(4) تشكيل لجان الحقيقية لمعرفة الحقيقة باعتبارها أساس المصالحة الوطنية، و(5) تخليد ذكرى الضحايا. وقد أعطت تجارب العدالة الانتقالية المختلفة نموذجين أساسيين: الأول «نموذج الاستمرارية القانونية»: وهو الذي مثلته تجربتا بولونيا وهنغاريا والمغرب، خصوصاً فالتغيير كان سلساً وسلمياً وتواصلياً وتدرجياً. أما الثاني «نموذج القطيعة مع الماضي»: فقد عكسته مثلا تجربتا ألمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا، حيث كان التغيير ثورياً إذ ارتفعت دعوات القطيعة مع الماضي واستخدام العدل العقابي والتاريخي وسيلة لمعالجة جرائم النظام السابق.ولكلا النموذجين خصومه وأنصاره، فخصوم النموذج الأول يعتبرون أنه يسمح للكثيرين بالإفلات من العقاب من خلال عدم المعاقبة أو التخلّي عن إمكانية المعاقبة، بما يؤدي إلى إضعاف الدولة القانونية، التي لا يوجد فيها شخص فوق القانون، ولهذا فالأمر يتطلّب تصفية الحسابات مع جرائم الماضي، فتطبيق ثقافة المساءلة مكان ثقافة الإفلات من العقاب التي سمحت بارتكاب الانتهاكات ،يعطي إحساسًا بالأمان للضحايا ويوجه تحذيرًا لمن يفكرون في ارتكاب انتهاكات في المستقبل . بينما يرى أنصار هذا النموذج أن ميزته الجوهرية هي في أنه يسعى لتجاوز الماضي بوسائل تدرّجية سلمية إدماجيه حرصاً على السلم الاجتماعي وإقامة دولة القانون دون انتقام أو ثأر. أما خصوم النموذج الثاني (القطيعة مع الماضي) فهم يعتبرون أنه يزيد من أمر انقسام المجتمع ويشغله إلى حدود بعيدة عن إعادة البناء، خصوصاً وان الكثير من الجرائم المرتكبة مضى عليها زمن طويل ويصعب أحياناً التحقق منها، لكن أنصار هذا النموذج يؤكدون أن ميزته الجوهرية تتجسد في كونه يضمن في الوقت نفسه تصفية تركة الماضي وعدم تكرار مآسيه مجددا، من خلال التذكير بالجرائم ومصارحة الذات لوضع حدّ لمختلف الصراعات والنزاعات الداخلية؛ وبناء أسس متينة تدعم دولة الحق والقانون. فأي النموذجين اعتمد في قانون العدالة الانتقالية في تونس؟ بقراءة أولية لقانون العدالة الانتقالية في تونس يلاحظ أنه تبنى في مجمله نموذج القطيعة مع الماضي وهو ما سيقع بيانه من خلال إظهار النقائص العديدة لقانون العدالة الانتقالية في تونس، التي نتعرض لها تباعا: 1 - غياب المرجعية القانونية: إن القارئ لقانون العدالة الانتقالية في تونس سيخيل اليه أنه قانون وضع في بلد لا يملك تراثا قانونيا عريقا، فخلافا للعادة لم يتضمن القانون أيّة إشارة للمحيط القانوني الذي صدر في ظله، كما أنه لم يتضمن أية إشارة للقوانين النافذة المتصلة بموضوعاته وتلك التي تضمن حقوق الإنسان والحق في المحاكمة العادلة وغيرها، فقد خلا القانون مثلا من أيّة إشارة لمجلة الإجراءات الجزائية ومجلة حماية الطفل، كما لم تقع الإشارة إلى المعاهدات والمواثيق والإعلانات الدولية المصادق عليها، وكان من المفترض أن يقع التنصيص عليها صراحة خاصة وأن القانون ذاته سيحيل إلى تلك المعاهدات عند الإشارة إلى انتهاكات حقوق الإنسان. كما أن الحديث عن الفساد المالي والاعتداء على المال العام كان يقتضي تحديد النصوص المرجعية المتعلقة بهما، وكذا الأمر بالنسبة لتزوير الانتخابات والدفع إلى الهجرة الاضطرارية لأسباب سياسية اللذان يفتقدان لنص يجرمهما صراحة وبصفة مباشر لا لبس فيها، ومن الثابت ان غياب هذه المرجعية زاد من غموض عدة فصول تعتبر ركنا جوهريا في هذا القانون. وعلاوة عما سبق فقد اكتفى الفصل 38 بالفقرة الأخيرة منه على أنه: «ولا يحق لأي كان التدخل في أعمالها (هيئة الحقيقة والكرامة) أو التأثير على قراراتها»!!! ما معنى هذا؟ وأيّة قيمة له؟ وماذا يترتب عن مخالفته؟ فما هي جدوى التحجير دون ان يقع تجريم التدخل أو التأثير أو محاولة ارتكاب أي منهما؟، خاصة وأنه كان يجب التجريم احتراما لاتفاقية مكافحة الفساد التي صادقت عليها تونس منذ سنة 2008. 2 - تجاهل الوضعيات الجارية: خلافا لما هو معتاد في القوانين التي تتضمن أثرا رجعيا، والقوانين التي تنظم وضعية غير مسبوقة، فقد خلا القانون من أية أحكام ختامية أو انتقالية تنظم الوضعيات الجارية وخاصة المحاكمات التي بدأت بعد 14 / 1 / 2011 وحتى الآن، فكما هو معلوم للجميع أن هناك محاكمات جارية وهناك قرارات وأحكام ابتدائية ونهائية وباتة صدرت ضد بعض الأشخاص عن أفعال تدخل في نطاق قانون العدالة الانتقالية، وهناك من قضى مدة العقوبة أو على الأقل قضى قرابة الثلاث سنوات في السجن، كما أن هناك أشخاص موقوفين لذات المدة تقريبا دون أي حكم فما هو مصيرهم اليوم؟ وهل يعقل ان يقف هؤلاء أمام هيئة الحقيقة والكرامة وهم سجناء مغلولي الأيدي؟ بينما يتقدم غيرهم حرا طليقا؟ تقتضي العدالة وأصل البراءة والطابع الاستثنائي للإيقاف أن يحال الجميع بحالة سراح وعلى قدم المساواة. كما يجب التساؤل هل أن قاعدة عدم المعارضة بمبدإ اتصال القضاء الواردة بالفصل 42 من القانون تشمل هذه المحاكمات أيضا؟ إذا كان الجواب بنعم فهذا عبث، لأن تلك المحاكمات تعتبر جزء لا يتجزأ من العدالة الانتقالية ولو أنها سبقت هذا القانون وكان من الواجب أخذها بعين الاعتبار صراحة إذ لا يجوز أن يحاكم الشخص عن ذات الفعل مرتين في ظل نفس المنظومة القانونية لذات البلد، وتعتبر المنظومة القانونية المطبقة بعد الثورة واحدة لا تتجزأ.وعلاوة عما سبق فقد تجاهل القانون تماما وضعية الأشخاص المصادرة أموالهم بموجب المرسوم عدد 13 لسنة 2011 رغم ان هذا المرسوم لم يغب عن واضعي القانون، فكيف لهؤلاء الاشخاص ان يقوموا بالمصالحة وقد وقعت مصادرة جميع املاكهم؟؟؟ وما جدوى انخراطهم أصلا في منظومة العدالة الانتقالية طالما أن فرضية المصالحة مستحيلة عليهم؟ يتبع