يقول عبد الرحمان ابن خلدون في مقدّمته «إنّ العمران البشري ضروري للإنسان...وأنّ الاجتماع البشري يحتاج إلى وازع يمنع اعتداء أفراد ذلك الاجتماع على بعضهم البعض»... ويبيّن في ذات المقدمة «أنّ الوازع الأخلاقي والديني غير كاف لتحقيق هذه الحاجة لذا فإنّ الوازع السلطاني هو الوازع الذي من شأنه ضمان التعايش السلمي بين أفراد المجموعة البشرية الواحدة كما أنّه الكفيل بحماية تلك المجموعة ضدّ الاعتداءات الخارجية»، مقولة ذات معاني عدة تنطبق تماما على الوضع الذي يعيشه المجتمع التونسي اليوم بعد تفشي ظاهرة العنف التي اكتسحت كل الفضاءات وطالت الجميع بما في ذلك القائمين على أمن البلاد وبلغ حدّا من الخطورة أصبحت تهدّد أركان المجتمع وأمن البلاد والعباد، أمام عجز هياكل الدولة والمجتمع على مجابهة هذا الغول وكأنّ الثورة شرّعت لكلّ شيء بما في ذلك الاعتداء على الأرواح والممتلكات. أقول هذا وقد اهتزت البلاد على خبر جريمة نكراء هي الثانية من نوعها في ظرف بضعة أيام استهدفت عون أمن في مدينة سيدي عمر بوحجلة من ولاية القيروان ومقتل طفلتين بمنطقة بهرة من ولاية الكاف على يد قريبتهما. يحدث هذا في بلد طالما تغنّينا بأنّ مواطنيه مسالمون ومثقّفون ويجيدون لغة الحوار أكثر من لغة العنف الذي كان إلى زمن غير بعيد حكرا على الدولة بحكم «طبيعتها البوليسية». فما الذي تغيّر بعد ذلك ولماذا تفشى العنف في ثنايا المجتمع التونسي وفي كلّ مفاصل الحياة? سوف لن أخوض كثيرا في التعريف بهذه الظاهرة وفي أسبابها ومسبّباتها وأترك الأمر لأهل الذكر من علماء النفس والاجتماع ومن محترفي السياسة ولكن سأشير فقط إلى أنّ العنف وإن كان ظاهرة بشرية منذ الأزل فهو ينمو في المجتمعات التي تشكو من عديد الضغوطات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهي ضغوطات تفضي إلى حالات من التوّتر والغبن واليأس والإحباط، ويتّخذ العنف أشكالا متنوعة من الشجار البسيط إلى العنف اللّفظي الذي غالبا ما يتطوّر إلى عنف مادّي يصل إلى حدّ القتل والانتحار. والعنف يمكن أن يكون فرديا أو جماعيا أو منظّما وهذا الصنف الأخير هو الأخطر لأنّه يتغذّى بدوافع دينية واديولوجية ويصبح أداة لتغيير نمط المجتمع بالقوّة تصل إلى حدّ استعمال السلاح في وجه الدولة. وفي كلّ الحالات فإنّ تفشّي العنف في المجتمع هو دليل على فشل لا الدولة فقط بل كافة مكوّنات المجتمع الحزبية والمدنية والإعلامية والمؤسّساتية وأعني بالمؤسساتية بالخصوص الأسرة والمدرسة. في فرنسا قامت الدنيا ولم تقعد بعد إيقاف عون أمن بتهمة القتل المتعمّد حتى أنّ الحملة الانتخابية الرئاسية لم تخل من الجدل حول توفير الحماية القانونية والمادّية لرجال الشرطة أثناء قيامهم بواجبهم والتي أصبحت مطلبا أساسيا لنقابات الأمن الفرنسي. أمّا في تونس فإنّ الوضع أكثر سوءا حتى أنّ عون الأمن الذي كان مهابا أصبح عرضة لكل التجاوزات من تهديد وتعنيف وقتل وعاجزا حتّى على حماية نفسه فما بالك بحماية الآخرين في ظلّ غياب منظومة قانونية توفّر له الحماية أثناء أدائه لواجبه وتبعد عنه شبح الخوف من الوقوع في المحظور حتى في حالة الدفاع عن النّفس. إنّ تصاعد ظاهرة العنف والجرائم في المجتمع التونسي أصبحت لافتة وتتطلب إجراءات عملية للحدّ من تناميها ومعالجة أسبابها ودوافعها فبلاغات الاستنكار والتنديد تبقى غير ذي بال في ظلّ غياب معالجة حقيقية من طرف الدولة أوّلا التي إذا لم تقم بحفظ الأمن تكون قد شرّعت للعنف بصفة غير مباشرة وفقدت بالتالي شرعيتها أمام مواطنيها وهيبتها أمام محترفي العنف. ولعلّه من المفيد في هذا المجال التفكير في إحداث مرصد يتولّى تشخيص ظاهرة العنف وتفسير دوافعها واقتراح الحلول الملائمة للتصدّي لمخاطرها وانعكاساتها السلبية وهذا لا يمكن أن يبلغ مداه إذا لم يستند إلى خطّة عمل متكاملة تعتمد الرصد والمتابعة والتقييم والتخطيط والمراجعة الدائمة انطلاقا من أهداف السياسات العامة للدولة والثوابت القيمية للمجتمع وبمشاركة كلّ الأطراف ذات العلاقة بالشأن حتى لا تقتصر المعالجة على جوانب دون أخرى.