بعيون دامعة وقلوب تحترق، وبمرارة ولوعة وبكاء وحزن حطت عائلات المفقودين في كارثة «لامبيدوزا» بمقر وزارة الخارجية مرفوقين بالأجوار والأقرباء من شتى الأحياء، بعضهم جاء منذ الصباح الباكر بحثا عن معلومة تطفئ لهيب النيران التي اشتعلت في القلوب منذ وصول الخبر المشؤوم الذي تعلق بغرق «المركب» الذي حمل على متنه أعز ما لديهم أي فلذات أكبادهم التي رحلت دون وداع في كارثة «لامبيدوزا»... تلك المأساة التي انطلقت من صفاقس وذهب ضحيتها نساء وشباب وأطفال في عمر الزهور. كانت اللوعة تزداد مع كل خبر يأتي من هنا أو هناك حتى لو لم يكن صحيحا. ومع كل كلمة تتناهى إلى المسامع، ترتجف القلوب ويغمى على البعض وينفجر آخرون في موجة من البكاء والصراخ. وأمام حالة التوتر الشديدة عمد بعض الأهالي إلى إشعال العجلات المطاطية والتهديد باللجوء إلى العنف لكن الوحدات الأمنية وعناصر من الجيش تمكنوا من التدخل وتطويق المسألة... التقينا بعض العائلات أمام مقر وزارة الخارجية، وبالرغم من هول المصاب فقد تحدثوا ل «التونسية» ورووا تفاصيل المأساة وجديد الحادثة . كانت الدموع لا تفارق عيني بلقاسم القنوني، والد أحد الشباب المفقودين من حي التضامن، قال بنبرات حزينة: «فقدت إبني واسمه سيف الدين، هو شاب عمره 22 سنة، عاطل عن العمل، لم نكن نعلم بنيته «الحرقان» بل سمعنا الخبر عن طريق «أولاد الحومة»، وقد أخبرونا أنه توّجه إلى «صفاقس» ولكن عندما اتصلت به شقيقته لتستفسره عن الأمر قال لها إنه في البحر وكانت تلك آخر كلماته، وبعد ذلك وصلنا خبر غرق المركب ثم علمنا أن سيف في عداد المفقودين. أضاف بلقاسم: «ما يؤلمني أكثر أننا لم نتحصل إلى الآن على معلومات دقيقة فالمركب لم يعثروا عليه... كما أنهم لم ينتشلوا الجثة لنتأكد من هوية «إبننا» نريد أن يأتوا بالجثث لندفن أبناءنا وترتاح قلوبنا. فمع كل يوم يمرّ تشتعل نيراننا وتزداد حيرتنا ومع تواتر أي معلومة جديدة نتشبث ببصيص من الأمل، وبصراحة لا نعرف إن كنّا سنقبل «التعازي» أم لا ؟ إننا نعيش على وقع الصدمة وفي حالة إنهيار قصوى». وقال بلال الغزواني وهو من حي التضامن بالعاصمة: «لقد تم مدّنا بصورة شقيقي بعد أن انتشلوا جثته ويدعى توفيق الغزواني من مواليد 14 أكتوبر 1984، نحن من عائلة متوسطة وأنا المسؤول عن شقيقي الهالك فقد كان يعمل معي في محل «للنقش» ورغم إطلاعي على الصورة إلاّ أن لديّ بعض الشكوك فهي لا تشبه كثيرا شقيقي وما ضاعف حيرتنا أن الإسم صحيح ولكن اللقب كان خاطئا وما أريده هو معلومات دقيقة فعائلتنا تعيش على هول الصدمة». وحول تفاصيل الحادثة قال بلال: «جرت العادة ان يطلعني شقيقي على برنامجه وان كان ينوي الحرقان، ولكن هذه المرّة كان متكتما ولم يهاتفني إلاّ بعد وصوله إلى «صفاقس» ليخبرني بالأمر، ورغم أني حاولت جاهدا ثنيه عن الذهاب فقد قال لي إنه «سيذهب»، لقد كانت لديه إعاقة على مستوى يده وكان يريد تحسين ظروفه المادية.» وأضاف: «يعجّ بيتنا يوميا بالوافدين لتقديم التعازي وأهلي ينتظرون أية معلومة عن الحادثة فقد قبلنا بقضاء الله وقدره لكن نريد الجثة لنتأكدّ». وتدّخل إبن خالته ويدعى منير ليقول: «ليست المرة الأولى التي يحاول فيها المرحوم توفيق عبور الحدود خلسة، لقد قام بمحاولة في السابق وتم إحباط العملية في «صفاقس» ولكن ها أنّه يكرّر العملية وللأسف غرق المركب هذه المرة، لكن هل يمكن أن نقبل التعازي بناء على صورة قد لا تكون له ؟ إننا نبحث عن خبر يقين ونريد رفع البصمات للتأكد من هوية الشخص لكن لا مجيب؟» . وقالت سيدة عوني، «لقد فقدت إبن عمي ويدعى إسماعيل العوني عمره 21 سنة من الجبل الأحمر وإلى الآن لا نعرف ان كان مات أم لا، فكلمة مفقود لم تطمئنا، هل هو ميت أم حيّ ؟ وكذلك إبن جارتي ويدعى «هيثم» عمره 18 سنة ووالدته من فرط الصدمة حملوها مرارا إلى المستشفى بعد أن حاولت الانتحار بخنق نفسها خاصة بعد تواتر معلومات تفيد بأن إبنها «مات» غرقا . وقال أسامة من الجبل الأحمر، جئت للبحث عن معلومات عن جارنا سفيان المطماطي البالغ من العمر 25 سنة، وقد علمنا أنه من المفقودين وما أعرفه أنه سبق وحاول «الحرقان» إلى إيطاليا 5 مرات تقريبا حتى أنه وصل ذات مرة إلى إيطاليا وعادوا به إلى تونس، ولكنه أصرّ على المحاولة مجدّدا لأنهم 3 أشقاء وظروفهم المادية صعبة للغاية. وأضاف: «بمجرد وصول الخبر لعائلته حاولت والدته فقأ عينيها وهي الآن في وضعية نفسية سيئة للغاية لذلك قدمنا إلى مقر الوزارة علنا نجد معلومات جديدة» . وتدخل بلال ليقول: «لقد فقدنا العديد من الشباب في حينا وهم حلمي وأيمن ورشدي وطارق وكمال وهيثم... لذلك فالكارثة كبيرة». وقال السيد محمود لقد قدمت اليوم للبحث عن معلومات عن قريبي سفيان دشيشي وهو من مواليد 1980 من حي الزياتين بالجبل الأحمر وحسب المعلومات التي لدينا هو في عداد المفقودين وقد سبق و«حاول الحرقان» لكن باءت المحاولات بالفشل وما أثار انزعاجي أن أحد أقربائنا حاول السفر إلى إيطاليا لمعاينة الجثة للتأكد من أنها فعلا تعود إلى سفيان ثم تسهيل إجراءات العودة بها لدفنها لكن لم يتمكن من ذلك فالعائلة في وضع نفسي سيئ ولم نجد تجاوبا من الجهات المعنية. و أفاد «عبد العزيز كمّون» بأنّ ابنه «بلال كمّون» البالغ من العمر 27 سنة والقاطن بحي «ابن سينا» من بين المفقودين في رحلة الموت التي راح ضحيتها 84 شخصا دون ان يكون له علم بمصيرهم وتساءل عن دور الأمن وغيابه عن كامل الأطوار التنظيمية لهذه الرحلة التي استغرقت الكثير من الوقت. و أضاف أن ابنه كان مقيما في ألمانيا ويتمتّع بشغل لكن بعودته إلى تونس فوجئ بواقع البطالة الشيء الذي جعله يفكّر في الهجرة من جديد وهو يطالب بمعرفة مصير ابنه منتقدا في الوقت ذاته تطمينات الجهات الرسمية بإمكانية نجاة المفقودين قائلا إنّ ابنه لا يحسن السباحة «ابني ليس الملّولي ليعبر22 كلم». وأكّد انّ الوسيط طمأنهم مرّتين بأنّ ابنه قد تمكّن من الوصول وسيكلّمهم بعد ساعتين لكنّه أغلق هاتفه. أمّا صديق «بلال» الذي كان جالسا أمام مقر وزارة الخارجية علّه يتحصل على معلومة جديدة تكشف عن مصير رفيق الدرب فقال إنّه كان على دراية بتفاصيل الرحلة التي انطلق التنظيم لها منذ أيام وأكّد انّ صديقه شارك في العملية تحت ضغط الوسيط الذي رفض مدّه بالمبلغ المالي الذي تسلّمه عندما أراد بلال التراجع عن قراره وخيّره بين السفر عبر أمواج البحر أو التخلي عن امواله التي تعدّ بآلاف الدنانير كما طمأنه انّ الرحلة لن يكون فيها اكثر من خمسين شخصا وانّ القارب الذي لم يكن مهيّئا لنقلهم اصبح جاهزا وقد وقع إصلاحه. أمّا «سناء حمدي» فقد قالت إن أخاها «عبد الباسط حمدي» البالغ من العمر 39 سنة غادر هو الآخر على متن قارب الموت مخلّفا وراءه زوجة وثلاثة أبناء وأضافت انّ شقيقها في عداد المفقودين مشيرة إلى انّه كان مقيما بإيطاليا واجبر على مغادرتها منذ ما يزيد عن ثماني سنوات وتضيف انّه حاول أكثر من مرّة العودة إليها منذ ذلك الحين لكن محاولاته باءت كلّها بالفشل ورغم ذلك لم ييأس وغادر على متن الرحلة الأخيرة التي راح ضحيتها 84 شخصا لتطالب الجهات الرسمية بتمكينهم من معرفة مصير ابنائهم. «زياد البوعزّي» هو الآخر من ضمن المفقودين حسب تصريحات خطيبته وأحد أقربائه اللذين كانا أمام مقرّ وزارة الخارجية وطالبا بمعرفة مصير «زياد» وقد صرّحا بأنّ قريبهم أنهى دراسته لكنّه عاطل عن العمل الشيء الذي جعله يغامر بحياته ويتّخذ من البحر طريقا نحو إيطاليا رغم ما تحمله الرحلة من مخاطر مؤكدين انّها المرّة الأولى التي يقرّر فيها خوض غمار تجربة «الحرقان» من جهته ذكر السيد «إبراهيم محرز» من إدارة الشؤون القنصلية بوزارة الخارجية ل «التونسية» أنه تم تكوين خلية أزمة لمتابعة الكارثة وان جهود الانقاذ في إيطاليا متواصلة على أمل العثور على ناجين مضيفا أن عدد الناجين بلغ إلى حد الآن 56 شخصا في حين لا يزال عدد المفقودين غير دقيق لأنه لم يتم حصر العدد الإجمالي للحارقين فالبعض حدده ب 110 والبعض يقول 140. وأضاف: «نحن الآن على اتصال مباشر مع القنصلية وتأتينا البرقيات تباعا وأحيانا في كل لحظة ولا نعرف بالتدقيق عدد النساء والأطفال الهالكين لكن ما تأكدنا منه انه توجد إمرأة واحدة من النساء الناجيات». وحول موعد وصول الجثث قال: «من السابق لأوانه الحديث عن موعد لأن السلطات الإيطالية تعمل على انتشال الجثث وإلى حدّ الآن تم انتشال جثتين فقط».