بقلم فتحي الزغل (كاتب ومحلّل سياسي) يعيش المجتمع في دول الرّبيع العربي منذ نجاح ثوراته الشّعبية وإطاحته بحكّام كانوا يستبدّون به ويقهرونه ويعبثون بمقدراته ، حالةً من التّجاذبات السّياسية الحادّة، وصلت درجة الاحتقان والعنف في بعض تلك البلدان. حتّى أنّ بعض الفُرقاء أضحوا لا يستحون من الترحّم على أيّام المقبور أو المخلوع أو الهارب من هؤلاء الحكّام المجرمين. وعندما بحثتُ عن أوجه الشّبه بين ما يحدث في ديارنا، وما حدث في الدّول والشّعوب التي انتفضت على نظامها السّياسي مثلنا من القرن الثّامن عشر في فرنسا إلى القرن العشرين في أمريكا اللاّتينية وأوروبا الشّرقية وآسيا، وجدتُ أنّ تلك الأمم قد ماثلتنا في التّجاذب الحادّ بين فصائلها السياسيّة ورؤاها الفكرية إبّان خلعها نظامها السّياسي. تجاذب وصل للاحتقان الذي نعيشه اليوم في بعض بلداننا. وأقصدُ ذاك الذي وقع في رومانيا حديثا أو في فرنسا - بلد أوّل ثورة شعبيّة مكتملة ناجحة – قديما. تجاذب بعضه لا يزال قائم إلى الآن في الدّول الحديثة بالثّورة، وتطوّر في الدّول العريقة في الدّيمقراطية اليوم ليصبح نقاشا سياسيًّا راقيا لا يصل درجة العنف والاحتقان. وما الشّبه الواضح بين تلك الشّعوب إلاّ لأنّ التّشنّج والتّناكف والنّقاش الحادّ الذي طبع ويطبع المرحلة، لا يعدو أن يكون سوى تعبير فرديّ نفسيّ اجتماعيّ لقانون واحد يحكم تلك الظّاهرة... فالشّعب أو الأمّة أو مجموعة البشر التي تعيش تحت نظام سياسيّ واحد يتطوّر سلوكُه الجماعيُّ ويتغيّرُ ويتكيّفُ بالتّعلّم وبالتّجربة، شأنه شأن سلوك الطّفل منّا، عندما يبدأ في بناء علاقاته الخارجيّة مع إخوته في عائلته، فجيرانُه من أقرانه، فأصدقاؤُه من مدرسته، وصولا إلى نضجه الكامل في بيئة عمله وأسرته. وبالتالي فنحن إذا ما اقتربنا أكثر من ذاك السّلوك في تطوّره، نجده مطبوعا في مراحله الأولى بالأنانيّة، والمركزيّة الذّاتية، وعدم قبول الآخر مطلقا. قبل أن يتطوّر في مرحلة ثانية لا تعكس إرادته الحقيقيّة في اتجاه التّعامل مع الآخر إذا كان يخدم مصلحته ويمنحه ما يريد. ثمّ في مرحلة لاحقة يتطوّر إلى بداية تعايش كلّ طفل مع بيئته الضيّقة وعدم الاعتراف بغيرها من البيئات التي يلحظها هو بنفسه. ليصل في نهاية مراحل نموّه الذّهني والنفسيّ النهائيّة إلى الوعي بأنّه جزء من نسيج بشريّ كبير، يخدم بعضه بعضا، فيتّسم سلوكه باحترام كلّ مكوّنات ذلك النّسيج بما في ذلك من يُخالفهم ويعاكسهم الرّأي. وهذا التّطور الخطّي نحو لجم عنف الأنانيّة، يتشكّلُ بعينه في الوعي الجماعيّ لكلّ مجتمع حديث العهد بالدّيمقراطيّة والحرّيّة. فتبدأ الخلافات الجماعيّة داخله تأخذ شكلا عنيفا يغلب عليه إرادة كل فصيلٍ فيه إقصاءَ غيره ممّن يحمل خلاف فكره. مع ما يُخلّفه ذلك السلوك الاجتماعيّ العنيف الأناني المتمركز على ذاته من خسائر وضحايا، قبل أن يتطوّر الوعيُ الجماعيّ لنفس المجتمع لتُدرك فصائله الفكريّةُ أنّ اختلاف غيرها معها في الرأي لا يعني بالضرورة الخيانة والتّوجّه نحو الكارثة، وإنّما الاختلاف ذاك من اختلاف المرجعيّة والتّجربة والمصلحة. فتبدأ نبرة الحدّة في النّزول شيئا فشيئا إلى أن تصل تلك الأممُ أو الشّعوب في قمّة وعيها الجماعيِّ إلى مرحلة نضج جماعيٍّ يفرض احترام كلّ فصيل أو فرقة أو مجموعة من البشر لغيرهم ولو اختلفوا معهم. كما يفرض عليهم نقاشات راقية معهم، لا مكان فيها لفرض الرأي سوى بالإقناع ومقارعة الفكرة بالفكرة ورمي الحجّة بالحجّة تُفحمها. وتلك مرحلة أظنّني مقتنع بأنّ شعوب ربيعنا العربيّ لم تصلها بعد، لحداثة عهدها بالدّيمقراطية. مثلها مثل شعوب أخرى سبقتها بعهود في هذا المجال. لأنّ الصّيرورة الاجتماعية تتطلّب وقتا يطول ويقصر حسب معطيات خارجيّة موضوعيّة أخرى، لا يتّسع وقتُ المحاضرة لذكرها الآن. وإنّما يكفي لأن أشيرَ إلى أنّ كلّ الظاهرة الاجتماعيّة هي خاضعة لنفس القانون لا محالة، وبفهمنا للقانون... نُشاهدُ العربة ونتلمّسُ الطريق ونفهمُ سلوك السّائق.