بقلم وحيد رحيم* كثيرا ما يعرف العنف على أنه " لجوء غير مشروع للقوة وأنه فعل مرادف للشدة يؤدي إلى إلحاق الأذى بالآخرين " ( جميل صليبا : المعجم الفلسفي – 1994 ). وهذا التعريف حساس جدا لطبيعة العنف وللأطراف الموجه ضدها ، لذلك من الصعب جدا الحديث عن نوع واحد من العنف بل عن أنواع وصور مختلفة يتداخل فيها العنف المادي بنظيره النفسي والعنف المعلن بالعنف الخفي . في هذا السياق يمكن القول إن ثورة 14 جانفي وما رافقها من انفلاتات شتى قد أفرزت أشكالا جديدة من العنف وبفاعلين جدد . هذا العنف نلحظه في شتى المجالات بدءا بالمجال المهني مرورا بالمجال الإعلامي ووصولا إلى المجال السياسي ، وهو عنف أفراد ومجموعات - متجانسة ومهيكلة حينا وغير متجانسة بل ولقيطة أحيانا أخرى - يختلف في مضامينه وأهدافه ووسائله عن " عنف الدولة " الذي أشار إليه " ماكس فيبر" Max Weber وأضفى عليه المشروعية كل من " ماكيافيلي " و " كانط " ، باعتباره الأداة الرئيسية لتطبيق القانون وحفظ الأمن وضمان الاستقرار. ولعل ما يجعل العنف السياسي من أخطر أنواع العنف هو كثرة المبررات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يمكن أن يحتمي بها دعاة هذا الشكل من العنف في سبيل تحقيق طموحاتهم في القيادة . ولعل قوة هذه الدوافع وتشابكها هو الذي يجعل هؤلاء الأشخاص يستعملون كل الوسائل قصد الوصول إلى مبتغاهم دون أن يفرقوا في لحظة الشعور بنشوة الطموح بين الأدوات المشروعة وغير المشروعة . ولئن تعددت التعريفات المتعلقة بمفهوم العنف السياسي فإنه يوجد شبه إجماع في أوساط الدارسين والمختصين في مجال علم الاجتماع السياسي على أن العنف يصبح سياسيا متى تكون أهدافه ودوافعه سياسية ، وهم يعرفونه تبعا لذلك على أنه " استخدام كافة الوسائل المتاحة لتحقيق أهداف محددة وفق حد أدنى من الوضوح النظري من جانب القائمين على السلطة أو المضادين لها " ( فيليب برود Philippe Braud : العنف السياسي في الديمقراطيات الغربية - 1993 ). وإن كنا كتونسيين قد تعودنا على عنف السلطة على مدى نصف قرن أو أكثر ورفضناه رغم ما يكتنفه من شرعية فإننا لم نألف بعد المظهر الثاني من العنف السياسي الذي يمكن أن تمارسه السلط المضادة والذي لا يقل خطورة عن الأول خاصة إذا كان القصد من ورائه تحقيق مكاسب فئوية ضيقة . 1- في مظاهر العنف السياسي : إن أغرب ما في الثورة التونسية هو أنها لم تفرز عنفا ثوريا موجها ضد رموز الفساد قصد اصتئصالهم والتشفي منهم كما يحدث في كل ثورات العالم ، وبخلاف ما كان ينتظره البعض لم تمارس الحكومة الجديدة انتقاما من مناوئيها ولم تعمد إلى إقصائهم بل العكس هو الذي حدث إذ ومنذ صدور النتائج الأولية لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي تتالت التصريحات النارية التي شككت في اختيار الشعب واتهمته بالغباء كما شككت في سير العملية الانتخابية وفي نزاهتها . بعد ذلك بدأت سلسلة التشكيك في أعضاء الحكومة وفي كفاءاتهم وولائهم للوطن ليعقب ذلك مسلسل من ردود الأفعال والانتقادات لحركات الترويكا وسكناتها بل ولنواياها الدفينة ليصل الأمر إلى حد الثلب والقذف العلني والدعوة الصريحة للقتل . كما تزامنت هذه الممارسات بتكثيف الإشاعة وترويجها في كل المساحات الإعلامية في محاولة واضحة لتأجيج الرأي العام وتحريك الشارع والدفع نحو مزيد الإضرابات والإعتصامات وحتى العصيان المدني لشل أجهزة الدولة وتعجيز الحكومة الحالية وتبرير الدعوات المطالبة برحيلها و من ثم تشكيل حكومة إنقاذ وطني تتولى زمام الأمور إلى حين الانتهاء من صياغة الدستور وتنظيم الانتخابات المقبلة . ولعل ما يشدنا إلى هذا النوع من" العنف " الممنهج هو تعدد الأطراف المعنية بممارسته والتي تضم جزءا من المعارضة المعادية إيديولوجيا لتيار الإسلام السياسي وتحديدا النهضة وعدد لا يستهان به من القيادات النقابية المحسوبة على اليسار وبعض الناشطين في المجتمع المدني وإعلاميين ورجال أعمال فاسدين إضافة إلى بقايا التجمع المنحل والذين توحدوا قصد هرسلة السلطة القائمة وإرباكها خاصة وأنها تموقعت في موقع المدافع عن النفس ولم تبد الصرامة الكافية في التعاطي مع عديد الملفات. 2- في خلفية العنف السياسي ودلالاته : إن ممارسة هذا الشكل من العنف بهذه الحدة وهذا الاسترسال لا يمكن رده إلى مقتضيات التدافع السياسي فحسب وإلا لكان اقتصر على الأطراف السياسية دون غيرها ولاعتبر عندئذ ظاهرة صحية في سياق التجاذبات المعروفة بين السلطة وبقية الأحزاب السياسية المكونة للمشهد السياسي ولكن أن يصطف هؤلاء لتصيد الزلات و اللعب على التناقضات فإن ذلك يبعث على تأويلات أخرى باتت تتناقلها بعض الألسن : - أول هذه التأويلات يتلخص في حرص " أعداء " الترويكا على إجهاض أول تجربة ديمقراطية حقيقية تعيشها بلادنا منذ استقلالها من خلال دفع الحكومة الشرعية إلى الاستقالة أو على الأقل القبول بتشريك أطراف أخرى لم يفرزها صندوق الانتخاب وبذلك تستمر " ماكينة " الفساد في الدوران ويبقى رموز الأمس من بارونات المافيا وسماسرة السياسة في مواقعهم دونما حسيب أو رقيب . - التأويل الثاني يصب في دفع الحكومة التي يصرون دوما على تسميتها بالمؤقتة إلى رد الفعل عملا بالمقولة المعروفة " العنف ينتج العنف " LA VIOLENCE PRODUIT LA VIOLENCE وحينها يسهل عليهم إدانتها وتشويهها وإيجاد المبررات الكافية " للانقلاب " عليها تأسيا بالتجربة الجزائرية حيث أقصي الإسلاميون في تسعينات القرن الماضي بعد أن فازوا في الانتخابات في مؤامرة بدأت بنشر الإشاعات حول عنف المتشددين والمتطرفين و تهديدهم للمصطافين وأصحاب الملاهي والنوادي الليلية لتنتهي بتفجيرات وأعمال إرهابية يتهم بها التيار السلفي دون إثباتات أو أدلة واضحة ( كتاب الحرب القذرة : حبيب سويدية [ شهادة ضابط سابق في القوات الخاصة الجزائرية 1992 / 2002 ] ). - ثالث التأويلات وهو الأخطر يتقاطع مع سياسة قلب الطاولة أو هدم المعبد على من فيه بمعنى إدخال البلاد في فوضى قد تكون " خلاقة " في حسبانهم وتؤدي إلى إفراز لاعبين جدد ولا يهم إن تعطلت مرافق الدولة وأحرقت مؤسساتها وتراجعت مؤشراتها التنموية ونزل ترتيبها المالي والاقتصادي إلى الحضيض . هذه الاحتمالات تؤكد خطورة العنف السياسي وتميزه عن بقية أنواع العنف الأخرى بمعطيين على الأقل : * الأول يتمثل في بعده الشمولي وتأثيراته السلبية على جميع مجالات المجتمع ومكوناته . * الثاني يتمثل في تخطيه للبعد الرمزي ( معارضة الأفكار والبرامج ) وتحوله إلى عنف مادي معلن وصريح . لقد عانينا في تونس طويلا من عنف الحكومة وتسلطها على المعارضة وها نحن اليوم نقف على مظهر جديد من مظاهر العنف السياسي الذي تمارسه المعارضة ضد الحكومة . في هذا الاتجاه وعوضا عن الانكباب على تأطير منخرطيها وتوعيتهم بخطورة المرحلة لم تتوان المعارضة ومن سار في فلكها عن إثارتهم وتحريضهم والدفع بهم نحو المواجهة مع السلطة ولو بالتستر برداء ديني ، اجتماعي أو اقتصادي أحيانا . في النهاية نرجو أن يكون هذا العنف السياسي الذي أصبح حاضرا وبقوة في إعلامنا ومجالسنا وشوارعنا مجرد حالة نفسية لا تتعدى الشعور بالإحباط في مجتمع لا يحترم إلا الناجحين ، وأن يكون محدودا في الزمان كما في المكان و لا يتحول إلى سلوك عدواني يعبر عن غريزة الموت التي تهدف إلى تدمير الذات وتدمير الغير .