رافق الاغتيال السياسي الثاني الذي عرفته البلاد خروج البعض بأفكار قديمة متجددة في الدعوة للعصيان والتمرد وإسقاط الحكومة وحل المجلس التأسيسي، وإحداث حالة من الارباك والفوضى، لدفع الحكومة المتخبطة في ضعفها وترددها لتقديم تنازلات، قد تصل لتسليم مقاليد الحكم لأقلية انتخابية وشعبية. السيطرة على الشارع والامر هنا لا يخلوا من مفارقات، فالمنطق السياسي يقول ان هذه الحكومة ذات التمثيل الاغلبي في الشارع، يسعى خصومها لإسقاطها من خلاله. وهذا أمر مستبعد. إذ لا يمكن لاحد ان ينكر ان حركة النهضة بمفردها، وبدون اعتبار ضلعي الترويكاحصدت الاغلبية الساحقة من اصوات الناخبين، ولولا قانون أكبر البقايا، الذي وضع خصيصا للحد من سيطرتها وتحجيم دورها، من خلال استقراء لتوجه الشارع الذي يميل للتصويت لها في تلك الفترة، لكان مكان خصومها السياسيين القاعات المغلقة ولم يكن لهم أي تمثيل في المجلس التأسيسي الذي اختاره الشعب . لكن رغم الاخطاء الجسيمة والعديدة التي اتتها حكومة الترويكا على مدار ما يناهز العامين من الحكم، مما ساهم في تردي شعبيتها وفقدان مكانتها الريادية. الا انها رغم ذلك تبقى الحزب الاكثر تواجدا في الشارع والاكثر قدرة على الحشد الجماهيري وتجميع الأنصار. ولنا في العديد من المناسبات التي نزلت فيها حركة النهضة للشارع الا وكانت الاعداد محترمة والاستجابة قياسية. وذلك بخلاف احزاب المعارضة بجميع اطيافها، والتي تجد صعوبة بالغة كلما اقتضت الحاجة إلى تجميع أنصارها وحشدهم للنزول الى الشارع. وتبقى السمة المميزة لتحركات احزاب المعارضة في الشارع هي العنف الذي صاحبها والمواجهات مع قوات الامن وغلق المحلات وحالات النهب والاعتداء على الاملاك. لكن في المقابل تمتلك المعارضة في هذا الاطار ورقة هامة تعتمدها كورقة ضغط بمناسبة او بدونها وهي ورقة الاضراب العام، التي تحولت من آلية احتجاج شعبي الى وسيلة للابتزاز السياسي فالإضراب العام لم تعرفه البلاد على مدار 60 سنة من الاستقلال الاّ في مناسبتين، بينما اقره القائمون على الشأن النقابي عدة مرات في ظرف سنتين من الثورة، مع ما قد يتبعه من أثار شديدة السلبية على الاقتصاد الوطني. بالإضافة لما يشكله قرار الاضراب العام من حيف في حق نسبة هامة من الشغالين، لان الإتحاد العام التونسي للشغل مؤسسة وطنية تمثل كافة أطياف الشعب وليست الناطق الرسمي باسم شق سياسي دون آخر، حتى وان كان يحمل نفس التوجهات الايديولوجية لقادة الاتحاد. هذا بالإضافة الى الاضرابات القطاعية والمرفقية التي لا تكاد تغيب يوما عن واقعنا. فلا يكاد يمر يوما دون تسجيل اضراب حتى اصبحنا نحتل الصدارة في قائمة الدول الاكثر تنفيذا للإضرابات، مما ساهم في غلق العديد من المؤسسات واثقال كاهل الدولة بالمطلبية المشطة، وتعطيل مصالح المواطنين. لكن هذا كله لم يمنع اصطفاف المؤسسة الشغيلة في أجندة سياسية واضحة. إعلام منحاز لكن وفي مقابل هذا الضعف الشعبي تمتلك المعارضة نقطة قوة هامة تتمثل في وقوف الاغلبية الساحقة من وسائل الإعلام في صفها، وهذا لا يعني افتقاد الحكومة ومؤيديها الى وسائلهم التي تدافع عنهم وعن خطهم السياسي والايديولوجي. لكن لا وجه للمقارنة بين وسائل إعلام متمرسة بشقيها الخاص والعام وتمتلك الاموال والامكانيات والخبرة بتلك التي لازالت تشق اولى خطواتها وبإمكانيات محدودة . هذه هي الصورة تقريبا عن نقاط ضعف وقوة كل من شقي الحكومة والمعارضة، شارع بلا إعلام واعلام بلا شارع. ورغم ان موازين القوى تبدوا متساوية لأهمية العاملين (الاعلام والشارع) في تحديد التوجه السياسي للراي العام الشعبي، الا انه هناك نقاط اختلاف تغلب كفة هذا الفريق عن الفريق الاخر. وهي كيفية تعامل كل فريق مع نقاط قوته.