وزيرة الصناعة تشارك في فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    العاصمة: مئات الطلبة يتظاهرون نصرة لفلسطين    النجم الساحلي يتعاقد مع خالد بن ساسي خلفا لسيف غزال    دوز: حجز 10 صفائح من مخدر القنب الهندي وكمية من الأقراص المخدرة    درة زروق تهيمن بأناقتها على فندق ''ديزني لاند باريس''    هذه الدولة الافريقية تستبدل الفرنسية بالعربية كلغة رسمية    المجمع الكيميائي التونسي: توقيع مذكرة تفاهم لتصدير 150 ألف طن من الأسمدة إلى السوق البنغالية    نادي تشلسي الإنجليزي يعلن عن خبر غير سار لمحبيه    الجامعة التونسية المشتركة للسياحة : ضرورة الإهتمام بالسياحة البديلة    تعرّض سائق تاكسي إلى الاعتداء: معطيات جديدة تفنّد روايته    نائبة بالبرلمان: ''تمّ تحرير العمارة...شكرا للأمن''    التونسيون يستهلكون 30 ألف طن من هذا المنتوج شهريا..    الرابطة الأولى: تفاصيل بيع تذاكر مواجهة النادي الإفريقي والنادي الصفاقسي    بنزرت: النيابة العمومية تستأنف قرار الافراج عن المتّهمين في قضية مصنع الفولاذ    فيديو : المجر سترفع في منح طلبة تونس من 200 إلى 250 منحة    عاجل : وزير الخارجية المجري يطلب من الاتحاد الأوروبي عدم التدخل في السياسة الداخلية لتونس    رئيس الجمهورية يلتقي وزير الشؤون الخارجية والتجارة المجري    إنهيار سد يتسبب في موت 42 شخصا    مليار دينار من المبادلات سنويا ...تونس تدعم علاقاتها التجارية مع كندا    عاجل/ هذا ما تقرر بخصوص محاكمة رجل الأعمال رضا شرف الدين..    بنزرت: طلبة كلية العلوم ينفّذون وقفة مساندة للشعب الفلسطيني    إصابة عضو مجلس الحرب الصهيوني بيني غانتس بكسر    "بير عوين".. رواية في أدب الصحراء    بعد النجاح الذي حققه في مطماطة: 3 دورات أخرى منتظرة لمهرجان الموسيقى الإلكترونية Fenix Sound سنة 2024    سليانة: 4 إصابات في اصطدام بين سيارتين    17 قتيلا و295 مصابا في ال 24 ساعة الماضية    وزير الخارجية الأميركي يصل للسعودية اليوم    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان المغربي يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    نشرة متابعة: أمطار رعدية وغزيرة يوم الثلاثاء    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    تصل إلى 2000 ملّيم: زيادة في أسعار هذه الادوية    ما حقيقة انتشار "الاسهال" في تونس..؟    تونس : ديون الصيدلية المركزية تبلغ 700 مليار    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    هام/ بشرى سارة للراغبين في السفر..    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    زيارة ماسك تُعزز آمال طرح سيارات تسلا ذاتية القيادة في الصين    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    غوارديولا : سيتي لا يزال أمامه الكثير في سباق اللقب    العثور على شخص مشنوقا بمنزل والدته: وهذه التفاصيل..    عاجل/ تفكيك شبكة مُختصة في الإتجار بالبشر واصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن في حق أعضائها    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جذورها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية
أحداث 26 جانفي: بقلم : السيد محمد الناصر
نشر في الشعب يوم 06 - 02 - 2010

تحوّل الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 26 جانفي 1978 إلى انتفاضة شعبية استوجبت تدخّل الجيش وإعلان حالة الحصار ولأول مرّة بعد الاستقلال تصطدم قواة الأمن والجيش الوطني بالمواطنين في مواجهة دامية أدّت إلى عديد القتلى والجرحى. وعندما نتحدّث عن أحداث 26 جانفي لابدّ أن نفصل بين قرار الإضراب العام الذي اتخذه المجلس الوطني للاتحاد والاضطرابات التى جدّت يوم 26 جانفي 1978 والتى هي محل جدال فيما يتعلق بأسبابها وبالمتسببين فيها.
وستقتصر مداخلتي على الإضراب الذي نادى به الاتحاد ونفذه يوم 26 جانفي 1978، بعد سنة فقط من الاتفاق مع الحكومة وبقية الأطراف المعنية على ميثاق اجتماعي يضمن السلم الاجتماعية مدّة المخطط الخامس. وبعد ستّ سنوات من حوار اجتماعي مسؤول ومتواصل في نطاق ما سمّي بالسياسة التعاقدية كان الاتحاد من أكبر المتحمسين لها والمستفيدين منها.
ظروف نشأة السياسة التعاقدية
في الحديث عن جذور الأزمة التى أدّت إلى إضراب 26 جانفي لابدّ من الرجوع إلى سنة 1971 إثر توقف المشروع الاشتراكي للتذكير بالدور التاريخي الذي قام به الاتحاد وقادة الاتحاد في ذلك الوقت داخل الحزب الاشتراكي الدستوري لمناصرة الخيار الليبرالي الذي تبناه الهادي نويرة على حساب الخيار الديمقراطي الذي نادى به أحمد المستيري، كان ذلك في مؤتمر المنستير الأول سنة 1971 الذي شهد الانشقاق المعروف داخل الحزب إثر أزمة 1969 وعدول الحزب والحكومة عن مواصلة منوال التنمية الاشتراكية.
ولابدّ هنا من التذكير كذلك بما وقع إثر ذلك المؤتمر من استقالة عدد من أعضاء اللجنة المركزية وانسلاخ عدة جامعات دستورية عن الحزب.
وفي حين كانت برقيات التنديد والانسلاخ من الحزب تتوارد على الهادي نويرة الأمين العام الجديد والوزير الأول من الشعب والجامعات الدستورية، كانت برقيات التأييد والوفود المهنية تأتي إليه من النقابات الأساسية ومن الجامعات المهنية التابعة للاتحاد وذلك بإيعاز من قيادة الاتحاد في ذلك الوقت.
وقد تحدّث الحبيب عاشور في كتابه "حياتي السياسية والنقابية" عن عودته إلى الإتحاد (p.108) وعن مشاركته في مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري في المنستير سنة 1971، ثم عن مساندته سياسيا للوزير الأول والأمين العام للحزب آنذاك بعد مؤتمر المنستير(p.123) الأول والجدير بالذكر هو أن الوجود المتزامن لهاتين الشخصيتين في مراكز القيادة على الساحة السياسية والنقابية، والعلاقات الشخصية بين هذين المناضلين وروابطهما السياسية والنقابية، والدور الفاعل الذي لعبه كلّ منهما من أجل دعم الآخر في مركز القيادة في صلب الحزب وفي الاتحاد، كلّ هده العوامل والظروف هيّات الأرضية التى نشأت فيها السياسة التعاقدية التى أصبح الهادي نويرة والحبيب عاشور أهمّ محركيها والفاعلين فيها.
فالاتحاد قام إذن سنة 1971 بدور تاريخي في تغيير ميزان القوى داخل الحزب الحاكم لفائدة شق على حساب الشق الآخر ولتفوق مشروع مجتمعي على مشروع مجتمعي آخر.
ويذكّرنا هذا الوضع بما تمّ سنة 1955 في مؤتمر الحزب بصفاقس حيث تغلّب شق بورقيبة بمؤازرة الاتحاد على شق بن يوسف بعد إبرام إتفاقية الاستقلال الداخلي وانتصر بذلك التيار التحديثي المتفتح على الغرب على التيار المحافظ والمتمسك بتوثيق جذور المجتمع التونسي مع أصوله العربية والاسلامية.
على أن الفرق فيها حدث في هاتين الفترتين التاريخيتين هي أن الاتحاد سنة 1955 كان حاملا لمشروع مجتمعي اشتراكي تمكن بفضل وجوده وتأثيره في مؤتمر صفاقس من إدراج خطوطه الأساسية في لوائح المؤتمر، وهو المشروع الذي تبنته الحكومة في خطة التنمية العشرية في الستينات.
أمّا فيما يتعلق بدور الاتحاد في السبعينات فقد اكتفى بمساندة المشروع الليبرالي الذي جاء به الهادي نويرة والمعروف بالسياسة التعاقدية والذي لم تتبلور أبعاده السياسية إلا سنة 1974 في مؤتمر المنستير2، ذلك أن الإشارة إلى هذه السياسة في المؤتمر الثامن للحزب سنة 1971 كانت مختزلة في ما سماه الهادي نويرة عقد اجتماعي يكون فيه الحزب صاحب المبادرة والدولة جهاز التنفيذ.
وقد بدأت الحكومة في وضع أسس هذه السياسة سنة 1972 من خلال الاتفاقية الإطارية المشتركة التى أبرمت في 20 مارس 1973 بين الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة بإشراف وزارة الشؤون الاجتماعية وبمساعدة منظمة العمل الدولية بجنيف، وقد نصّت هذه الاتفاقية في توطئتها على المبادئ الأساسية لهذه السياسة الجديدة وهي :
- إرساء العلاقات المهنية بين أرباب العمل والعمال على "حوار حرّ، في كنف احترام مصالح المجموعة بأكملها".
- العمل من أجل "تنمية الإنتاج الاقتصادي وتوزيع عادل للدخل الوطني".
- ضمان تحسين مستوى عيش العمال، تبعا لتطور الإنتاج والزيادة في الإنتاجية.
- العمل معا للوصول إلى تحديد أجور العمال على أساس تعاقدي، مع الأخذ بعين الاعتبار معطيات الاقتصاد الوطني وتبعا لنتائج المؤسسات وللظرفية الاقتصادية.
- الأجور يجب أن تضبط باتفاق مشترك، مع الأخذ بعين الاعتبار لأجر أدنى يضبط على أساس غلاء المعيشة وتبعا لاختصاص العمال ومواصفات الإنتاج.
فإلى ذلك التاريخ كانت غاية الاتحاد العام التونسي للشغل من مساندة السياسة الجديدة التي تبنّاها الحزب في مؤتمر المنستير1 تحرير المفاوضات الاجتماعية في الأجور بعد أن كانت ممنوعة (الفصل 51 من م.ش) إذ من أهم المطالب التى تكرّرت في مؤتمرات الاتحاد منذ مؤتمره الثالث 1949 هو تحرير المفاوضات الاجتماعية . فمساندة الاتحاد كانت إذن مساندة محدودة الهدف ذلك أن المشروع الليبرالي لم تبرز أبعاده السياسية إلا فيما بعد.
وفعلا لم تتبلور الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسياسة التعاقدية إلا في مؤتمر المنستير2 سنة 1974 وذلك في التقرير العام الذي قدمه المرحوم الهادي نويرة تحت شعار "ميثاق الرقي من أجل مشروع مجتمعي جديد" والذي جاء فيه :
"هو مشروع مشترك لخلق الثروات، وسياسة متفق عليها بشأن توزيع المداخيل التى تشكل فيها الأجور مكونا أساسيا" وهو "مشروع مجتمعي مبني على التضامن والتشاور ضامنا الرفاهة للجميع وتكافؤ الحظوظ لكل فرد من أجل مجتمع لا يخضع مستقبله فقط لإمكانياته وقدراته في هذا الميدان أو ذاك ولكن أيضا لقدرته على حلّ نزاعاته بالتفاوض".
كما أنه "يعبّر عن تعددية إقتصادية واجتماعية كبديل لا فقط لتدويل الاقتصاد وتعميم التعاضد بل وكذلك للتعددية السياسية أي لتعدد الأحزاب. فمنذ مؤتمر المنستير 2 أصبح من الواضح أن تحالف الاتحاد مع الحكومة ومع الحزب هو على أساس مشروع سياسي أختير كبديل للمشروع الاشتراكي الذي توقف سنة 1969 وللمشروع التعدّدي الديمقراطي الذي نادى به أحمد المستيري وجماعته في مؤتمر المنستير الأول.
وانطلاقا من سنة 1974 وخلال أربع سنوات، جرى تنفيذ السياسة التعاقدية في ظروف صعبة وشاقة وفي مناخ من التوتر المستمر. حيث تمّ التفاوض في 37 إتفاقية قطاعية مشتركة تغطي كل القطاعات المنظمة تقريبا في الصناعة والتجارة وعلى 70 قانون أساسي للمؤسسات العمومية، تمّ إمضاءها كلها وأصبحت قابلة للتنفيذ.
وبإبرام كل هذه الإتفاقيات المشتركة والقوانين الأساسية وهو ما اعتبره الحبيب عاشور أكبر إنجاز لم يحققه إتحاد الشغل قبل ذلك، فإن السياسة التعاقدية أصبحت واقعا ملموسا تمّ بفضلها تحسين الأجور وظروف الشغل بالمقارنة مع ما كانت عليه في العشرية السابقة في زمن السياسة الاشتراكية.
لكن رغم التحسينات في الأجور وفي ظروف العمل التى تمّت بعد الإمضاء على العقود المشتركة والقوانين الأساسية فإن الطلبات تواصلت تحت تأثير ارتفاع الأسعار وتزايدت الاضرابات التى كانت في أغلبها عشوائية إذ ارتفعت من 25 سنة 1970 إلى 215 سنة 1973 (سنة إمضاء الاتفاقية الاطارية المشتركة) إلى 372 سنة 1976.
وفي سنة 1976 اضطرت الحكومة لإدخال تعديل على مجلة الشغل شدّدت بمقتضاه في شروط الاضراب الذي أصبح يتطلب الموافقة المسبقة للمركزية النقابية وإنذار مسبّق بعشرة أيام.
وأمام تذمر أصحاب الأعمال من الاضرابات المفاجئة اتفقت الحكومة مع الأطراف الاجتماعية على تكوين لجان مشتركة قصد اقتراح زيادات عامة للأجور وصياغة آلية تحافظ على الطاقة الشرائية للأجراء وعلى السّلم الاجتماعية مدة المخطط وفي هذا الظرف كان الحبيب عاشور يردّد : "إني مستعد للإمضاء على سلم اجتماعية لخمس سنوات مقابل تحسين هام في الأجور".
وفعلا انطلقت المفاوضات على هذا الأساس وآلت إلى اتفاق مبدئي في الزيادة ب 33% في الأجر الأدنى وب 10 دنانير في الشهر لكل العمال في المؤسسات العمومية والخاصة وضبط طريقة مراجعة الأجور بصفة آلية كلما ارتفعت الأسعار بأكثر من 5% واستقرت في هذا المستوى ستة أشهر متتالية.
وبعد ذلك تمت صياغة نتيجة المفاوضات في وثيقة تليت في موكب رسمي أشرف عليه الوزير الأول بحضور أعضاء الحكومة والديوان السياسي والمكاتب التنفيذية للمنظمات الثلاثة يوم 19 جانفي 1977، وقد نص البند الأول من هذه الوثيقة على أن الأطراف الاجتماعية يوقعون على ميثاق اجتماعي طيلة المخطط الخامس ويلتزمون طوال هذه الفترة على الحفاظ على السلم الاجتماعية والزيادة في الانتاج (1) وتحسين المقدرة الشرائية وظروف العمل بالنسبة للأجراء.
وتنص بقية البنود على الزيادات التى وقع الاتفاق عليها و(33% زيادة في الأجر الأدنى) كذلك على طريقة مراجعة الأجور عند ارتفاع الأسعار.
ويتمثل العنصر الجديد في هذا الميثاق في التزام المنظمة النقابية بعدم المطالبة بزيادات في الأجور طيلة المخطط غير التى يتطلبها الحفاظ على المقدرة الشرائية.
وتجدر الملاحظة هنا إلى أن جميع الاتفاقيات المشتركة وجميع القوانين الأساسية للمؤسسات العمومية تحتوي على سلّم أجور تمكن الأجراء من الترقية الآلية حسب الأقدمية كل سنتين أو ثلاثة، كما تحتوي على ما سمّي بمنحة الإنتاج يتمتع بها الأجراء في آخر كل سنة وتتراوح بين أجر شهر و 3 أشهر حسب القطاعات.
ولا بدّ من التوضيح كذلك أن نص الميثاق الاجتماعي وقعت تلاوته في الجلسة الممتازة التى جمعت الحكومة والديوان السياسي والمكاتب التنفيذية الثلاثة وتمت عليه الموافقة بالتصفيق وبدون إمضاء وبدون اعتراض علني من أي كان، كما يجدر التأكيد على أن هذا الميثاق كان محل ترحيب من كل المنظمات بما فيها الاتحاد وقد رافقت شخصيا الحبيب عاشور في اليوم الموالي لإحياء ذكرى تأسيس الاتحاد بقابس صحبة Otto Kirsten وIrving Brown وكان الابتهاج والتأييد واضح في خطاب الأمين العام وفي خطاب الضيوف وكانت نفس اللهجة في جريدة الشعب لسان الاتحاد وفي خطابات الأمين العام للاتحاد في عدة اجتماعات تلت المصادقة على الميثاق الاجتماعي.
بعد استعراض ظروف نشأة السياسة التعاقدية التى توجت بإبرام مجموعة من العقود المشتركة والقوانين الأساسية بين 1974 و 1976 وبالميثاق الاجتماعي في جانفي 1977 في كنف الحوار المسؤول بين الحكومة ومنظمات العمال وأصحاب الأعمال، نتساءل عن الأسباب والمسببات التى تفسر (ولا أقول تبرّر) قرار الاضراب العام وتنفيذه يوم 26 جانفي 1978.
أسباب إضراب 26 جانفي ومسبباته
في اعتقادي أن أسباب الإضراب متعددة منها ما هو موضوعي ومنها ما هو شخصي وسأكتفي بالحديث عن بعض الأسباب التى أراها موضوعية وذلك لاجتناب الجدال الذي سيثيره حتما الحديث في كلّ الأسباب.
فالأسباب التى أراها موضوعية يعود بعضها إلى التناقضات الكامنة في تصميم السياسة التعاقدية وفي توزيع الأدوار بين مختلف الأطراف الفاعلة (1) ثم إلى النتائج التى حققتها السياسة التعاقدية (2)، وكذلك إلى التغيير في تركيبة الاتحاد خاصة بعد مؤتمر مارس 1977 وتنامي قوته على الساحة الوطنية (3) وأخيرا إلى مناورات استفزازية قضت على الثقة بين الأطراف وأدت إلى المواجهة (4).
(1) توزيع الأدوار :
يتضمن المفهوم الجديد لميثاق الرقي لا فقط البعد السياسي، بل كذلك تقاسم الأدوار بين مختلف الفاعلين أي الشركاء الاجتماعيين والدولة والحزب. وهكذا تتضح من خلال مضمون ميثاق الرقي مخاطر الانزلاق الذى يحمله في طياته، ذلك أنه بحكم الأدوار الجديدة التى حدّدها الميثاق فإن الدولة كسلطة عمومية وشريك اجتماعي هي في نفس الوقت حكم وطرف : "فباعتبار مسؤولياتها على الأمن الاقتصادي والاجتماعي للأمة، فإن الدولة تتحمل تماما دورها كمعدل وموجه للنظام الاقتصادي للبلاد بممارسة سلطتها كقوة عمومية وسلطة تدخل كلما كان ذلك ضروريا" "كما أن لها القول الفصل باعتبارها سلطة عمومية تضطلع وحدها بإعادة توزيع ثمرات النمو".
ومن جهة أخرى وإلى جانب الأطراف الاجتماعية الفاعلة هناك طرف آخر نصّ عليه ميثاق الرقي ومكنه من حق المراقبة والتدخل عند الاقتضاء، ألا وهو الحزب الذي أسند إليه "حق وواجب التدخل في كل ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية بما يمكنه عند الاقتضاء من الوقوف في وجه "الاتجاهات التى تقود إلى الانحراف وإلى تفتيت الوحدة الوطنية".
ويتضح مما سبق أن الأدوار متعددة وأن احتمالات الاختلاف والتصادم كامنة في تصميم المشروع الذي يقيّد حرية التصرف بالنسبة للاتحاد ويجعله في موقع الانقياد والقبول لما تقرّه الحكومة ويفرضه الحزب.
ففي تنفيذ السياسة التعاقدية، يقتضي دور الدولة كشريك اجتماعي أن تتنازل عن صفتها كقوة عمومية لتتفاوض على قدم المساواة مع الاتحاد العام التونسي للشغل بصفتها مؤجر فيما يخص الأجور وظروف العمل في القطاع العمومي. وعندما تهم هذه المفاوضات القطاع الخاص، فإن الدولة تضطلع بمهمة الحكم والموفق بين ممثلي الرأسمال وممثلي الشغل، وهي مهمة تفرض الحياد، إلا أن شرط الحيادية هذا محدود بالمسؤولية الأساسية للدولة في إعادة توزيع ثمرات النمو بالتشاور مع الأطراف الاجتماعية.
وهكذا فإن الأدوار التى احتفظت بها الدولة لنفسها في تطبيق السياسة التعاقدية، تشكل مصدرا محتملا لاحتجاج الأطراف الاجتماعية على عدم حيادها في إعادة توزيع المداخيل بين مختلف عوامل الإنتاج.
وفي المقابل يسند ميثاق الرقي للإتحاد العام التونسي للشغل وضعا متفوقا كممثل وحيد لمجموع العمال أي المخاطب للدولة ولمنظمات الأعراف في نفس الوقت، في حين يتصرف الاتحاد عند وضع السياسة التعاقدية لا فقط كطرف مخاطب للدولة وللأعراف بل كذلك كحليف سياسي للحكومة.
فضلا عن ذلك فإن أمينه العام هو في نفس الوقت عضو في الديوان السياسي للحزب وهو ما يعطيه وزنا تفاوضيا متميّزا. وهنا تبدو الصعوبات في التوفيق بين دور الطرف ودور الحليف، وبين المسؤولية النقابية للأمين العام وصفته كعضو للديوان السياسي ؟
وأخيرا فإن العقد الاجتماعي وقع اعتباره كبديل للتعددية السياسية، في حين أن التعدّدية سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، تعني تنوع الآراء وحق الاختلاف. فكيف يمكن التوفيق بين هذا المبدأ وشرط الانضباط داخل الحزب الواحد الذي يتمتع بحق الرقابة والتدخل في كل ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية ومجابهة كل ما يبدو له كتهديد للوحدة الوطنية أو انحراف بالنسبة لاتجاهات الحزب وسياسته؟
(2) نتائج السياسة التعاقدية :
كانت السبعينات سنوات اليسر والرخاء، كما أن تطور الإستثمار وتحرير التجارة وتشجيع الصناعات التصديرية كان لها مفعولها الإيجابي على النمو، الذي بلغ معدلا قياسيا : 9,9 % سنويا بين 1971 و 1976، وتحسنت من جهة أخرى موارد الدولة بفعل الزيادة في أسعار بعض المواد التى نصدرها إلى السوق العالمية : النفط والفسفاط وزيت الزيتون، وقد سمحت الزيادة في الإنتاج الوطني وفي موارد الدولة بتحسين التشغيل والأجور والحماية الاجتماعية والتحويلات الاجتماعية.
فخلال الفترة 1973 ? 1976، إرتفعت الزيادة في مواطن الشغل بصورة ملموسة، لتصل إلى 164 ألف موطن شغل بالنسبة لفترة المخطط الرابع أي بمعدل 41 ألف موطن شغل جديد في السنة. ورغم هذه الزيادة الملموسة للتشغيل، فإن البطالة قد إزدادت لأن مواطن الشغل الجديدة لم تصل إلى امتصاص المطالب الإضافية.
خلال نفس الفترة (1973 ? 1976) تضاعفت نسبة الأجور، وقد إرتفع معدل الأجر في المؤسسات العمومية بين 1973 و 1976 بنسبة 60 % ، وفي القطاع الخاص إرتفع الأجر الصناعي الأدنى المضمون بنسبة 130 % بين 1970 و 1977، بينما لم يرتفع مؤشر الأسعار إلا بنسبة 36 % خلال نفس الفترة، وهو ما يبيّن التحسن الملموس للمقدرة الشرائية خلال نفس الفترة بنسبة 120 %.
ومع ذلك فإن هذه الزيادة الهامة للأجور لم تخفف من المطالب في هذا الميدان. إذ أن المستفيدين من الزيادات هم أساسا أصحاب الأجر الصناعي الأدنى المضمون وهم لا يمثلون إلا 20 % من الأجراء. في حين أن الزيادة في الأجور الدنيا قد تسببت في تقليص "هرم الأجور" على حساب العملة المختصين والإطارات الوسطى والعليا.
هذا التفاوت في توزيع المداخيل، قد تسبب في شعور بالحرمان لدى شرائح من الأجراء، تجلى من خلال توتر اجتماعي مستمر : إضرابات ومطالب متجددة للزيادة في الأجور رغم التحسينات التى تمت سواء عبر الزيادة المتكرّرة أو بمناسبة تطبيق الاتفاقيات المشتركة والقوانين الأساسية الجديدة.
بالإضافة إلى زيادات الأجور، فإن الأجراء إستفادوا من مختلف الامتيازات الاجتماعية العديدة الأخرى، وهكذا فإن المنح العائلية قد إزدادت بفضل سحب منحة الأجر الوحيد على الأجراء في القطاع الخاص والتى كانت تسند فقط إلى موظفي الدولة كما تمّ إنشاء نظام التقاعد والعجز بالنسبة للعاملين في القطاع غير الفلاحي، مع ضمان حدّ أدنى من جرايات التقاعد يساوي ثلثي الأجر الصناعي المضمون.
ومن الإجراءات التى تمت في نطاق سياسة التعاقد لفائدة الأجراء نذكر إحداث صندوق خاص للنهوض بالسكن الاجتماعي، يساهم فيه الأعراف بنسبة 2 % من الأجور وهو مخصص لبناء المساكن الاجتماعية وتمكين الأجراء من التملك بشروط مواتية. ومن جهة أخرى إنطلق برنامج بناء المساكن الاجتماعية التى يمولها صندوق الضمان الاجتماعي لتوفير مساكن بكراء منخفض للأجراء.
ولحماية المقدرة الشرائية لأصحاب المداخيل الضعيفة فإن الحكومة دعمت أسعار الموارد الأساسية ذات الاستهلاك الواسع (الحبوب ومشتقاتها، الزيت، اللحم، السكر، القهوة والنقل العمومي) بفضل صندوق التعويض الذي تموله خزينة الدولة وإضافة لذلك، فإن الدولة كثفت جهودها في ميدان التربية والصحة العمومية بمضاعفة ميزانية نشاط الوزارتين المعنيتين بين 1972 و 1977 بينما تضاعفت ميزانية التجهيز لهاتين الوزارتين أربع مرات خلال نفس الفترة.
كما خصصت الدولة موارد هامة لتحسين ظروف العيش لسكان الأرياف في إطار برنامج للتنمية الريفية. وقد تمّ سنة 1977 بعث برنامج خاص للنهوض بذوي المداخيل الضعيفة وهو برنامج العائلة المنتجة، وكانت نتيجة مختلف هذه الإجراءات التخفيض في نسبة الفقر في البلاد بصفة ملموسة. ويتضح ذلك من خلال تطور إنفاق العائلات حيث أن عدد الأشخاص الذين تقل نفقاتهم عن 50 دينارا في السنة إنتقل من 27 % سنة 1966 إلى 16 % سنة 1975.
ورغم هذه التحسينات وهذه البرامج الاجتماعية، فإن الآمال التى بعثها التغيير سنة 1970، لم تقع تلبيتها سواء منها آمال الأجراء في توزيع عادل لثمرات النمو أو آمال الشباب في الحصول على شغل أو آمال النخبة في التمتع بالحريات الأساسية.
وقد تسبّت خيبة الأمل هذه في هيجان مستمر في الجامعة سواء في صفوف الطلبة أو لدى الأساتذة.
(3) التغيير في تركيبة الاتحاد :
إن التوتر الاجتماعي والسياسي المستمر الذي لم يتمكن الحزب والدولة من امتصاصه، استفادت منه قيادة الاتحاد التى سخرته لدعم مركزها التفاوضي والاحتجاجي خلال المفاوضات الجماعية مع الحكومة وبقية الشركاء الاجتماعيين. كما دعمت موقعها باستعادة النقابات الغاضبة أو غير المنضبطة إلى المركزية النقابية وذلك بمساندة مطالبها.
وبتفتح الاتحاد العام التونسي للشغل على الجامعيين والمثقفين وتكوين نقابات جديدة من بينها نقابتي التعليم العالي والأطباء، إنظم إلى صفوف الاتحاد مناضلون ينتمون إلى مختلف التيارات السياسية المعارضة التى لم يكن لها آنذاك فضاءات أخرى للتعبير عن رأيها. هذا الانفتاح على مختلف تيارات المعارضة لم يفتأ أن غذى مناهضة قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل من قبل بعض المسؤولين في الحزب وبعض أعضاء الحكومة. وأصبح من الواضح شيئا فشيئا أن الاتحاد العام التونسي للشغل يحتل فراغا سياسيا تركه الحزب الإشتراكي الدستوري الذي واصل التشبث بمبدأ الحزب الواحد ورفض التعددية والرأي المخالف. وبما أن الطبيعة تكره الفراغ، فمن غرابة الأقدار أن العقد الاجتماعي الذي أعلن عنه في مؤتمر المنستير الثاني كبديل للتعددية الحزبية قد أدى إلى تطوير الاتحاد العام التونسي للشغل إلى تجمع يضم كل الإتجاهات المعارضة.
وقد أثرت هذه التيارات المعارضة المنضوية تحت راية الاتحاد في مواقف الأمين العام وفي تصرفاته خاصة بعد إبرام الميثاق الاجتماعي والتنديد به من قبل 600 إطارا نقابيا في لائحة أعلن عنها في جريدة (Le Monde).
وهكذا تعززت قوى الاتحاد العام التونسي للشغل بين 1970 و 1977 مستفيدة من الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واكتسب الاتحاد بذلك قدرة هائلة في المفاوضات الاجتماعية كما تزايد شعوره بسلبيات المشروع الليبرالي على حساب دوره كشريك إجتماعي في السياسة التعاقدية وهو ما جعله يبدو في نظر بعض المسؤولين في الحزب كمنافس سياسي. وبالإضافة إلى ذلك فإن موقع الأمين العام للإتحاد الذي تكيف مع تعدد الآراء أصبح في تناقض مع ما يتطلبه الانضباط الحزبي الذي تفرضه عليه صفته كعضو في الديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري.
وهكذا فإن التطور في ميزان القوى بين الشركاء الاجتماعيين في تنفيذ السياسة التعاقدية كان من الأسباب التى أدّت إلى مواجهة 26 جانفي 1978.
(4) مناورات ومبادرات استفزازية ذوبت الثقة بين الأطراف :
وكما ذكرنا في بداية هذا العرض، إن ظروف عودة الحبيب عاشور على رأس اتحاد الشغل والمساندة التى منحها للهادي نويرة في مؤتمر المنستير الأول قد عززت العلاقات الشخصية بين الرجلين ورسخت تحالفهما، الأمر الذي شكل أساس السياسة التعاقدية الجديدة.
فميثاق الرقي الذي تنصهر فيه السياسة التعاقدية هو بمثابة عقد بين الدولة وشركائها الاجتماعيين الثلاثة، ولكن بما أن الاتحاد العام التونسي للشغل يمثل فيه مجموع الأجراء في القطاع الخاص وفي القطاع العام، في حين تحظى الدولة في نفس الوقت بدور الطرف الاجتماعي والحكم، فإن اتحاد الشغل أصبح يتميز بدور اللاعب الرئيسي وتحولت المقابلة من مقابلة ذات أربعة أطراف إلى مقابلة بين طرفين : اتحاد الشغل من جهة والحكومة من جهة أخرى. وخلف هذين الهيكلين ترتسم شخصية وطموحات واستراتيجيات المحركين الأساسيين أي الحبيب عاشور والهادي نويرة.
ونستنتج مما سبق أن تنفيذ السياسة التعاقدية كان يتأثر لا فقط بتطور الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإنما أيضا وبالخصوص بالعلاقات الشخصية وبمستوى الثقة المتبادلة بين المسؤولين الرئيسيين وهما أمين عام اتحاد الشغل والوزير الأول. وجاءت بعض الأحداث خاصة خلال سنة 1977 لتقلص من هذه الثقة بين الرجلين وتفسد علاقتهما بصفة ملموسة مما كان سببا في تصلب المواقف وجعل الحوار بينهما يتقلص وهو ما أفضى في الأخير إلى المواجهة.
ومن الأسباب التى ساهمت إلى حدّ بعيد في زعزعة الثقة بين القيادتين في سبتمبر 1977، سفر الأمين العام إلى طرابلس، حيث إلتقى بقائد الثورة الليبية بحضور وزير الخارجية التونسية الأسبق (1) وصانع اتفاقيات جربة. وقد وقع استغلال تصريحات الأمين العام إلى الصحافة الأجنبية لصالح الأطروحات الليبية، بما اعتبر في تونس مضادا للموقف الحكومي الرسمي.
وقد اعتبر هذا التصرف من قبل الأمين العام لاتحاد الشغل غير ملائم لصفته كعضو في الديوان السياسي مما أدى إلى محاولة تجريده من صفته في الديوان السياسي وهي محاولة قد أحبطها رئيس الحزب في آخر لحظة.
ومن جهة أخرى فقد راجت الشائعات حول محاولات تكوين منظمات نقابية منافسة، يشجعها بعض المسؤولين الحزبيين، وقد رأى أمين عام اتحاد الشغل في تلك المحاولات مؤامرة ضد شخصه وضدّ إتحاد الشغل يقودها الحزب وهو ما ساهم في تصلب موقفه.
____________________________________________________
وقد تأزم الوضع في شهر نوفمبر من سنة 1977 حيث توعد شخص معروف بالعنف بقتل الأمين العام لاتحاد الشغل وكان ذلك في سهرة خمريّة. وما إن بلغ النبأ إلى هذا الأخير حتى جمع الهيئة الإدارية التى اعتبرت هذا الوعيد مؤامرة ضد المنظمة وأعلنت عن إضراب بساعتين في جميع المؤسسات للاحتجاج على تلك التهديدات. وقد جرى الإضراب على مختلف المؤسسات بكامل البلاد.
الخاتمة :
إن أزمة 26 جانفي هي أزمة سياسية قبل أن تكون اجتماعية. صحيح أن الإضراب العام الذي وقع ذلك اليوم، كان بقرار من الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل وأن الأسباب التى ذكرها بلاغ الاتحاد كانت مرتبطة بتعليق المفاوضات في ديسمبر 1977، بخصوص بعض المطالب النقابية في بعض المؤسسات العمومية وبالمناورات للإطاحة بالأمين العام للإتحاد والنيل من سمعة الإتحاد لدى الرأي العام، غير أن البعد السياسي لهذا الإضراب واضح بسبب أنه يتضمن ليس فقط التنديد بسياسة الحكومة وإنما إنهاء الحلف السياسي الذي أبرمه اتحاد الشغل مع الحزب الاشتراكي الدستوري، منذ عودة الحبيب عاشور على رأس المنظمة سنة 1970، وما استقالة الحبيب عاشور من الديوان السياسي للحزب واستقالة بعض النقابيين من اللجنة المركزية بضعة أيام قبل الإضراب، إلا تأكيدا للقطيعة بين القيادة النقابية والحزب الحاكم.
وبقطع النظر عن شخصية أهم الفاعلين في هذه الأزمة وأمزجتهم وغاياتهم السياسية وطموحاتهم الشخصية وتأثير هذه المعطيات على تصرفاتهم وعلى القرارات التى اتخذوها والتى آلت إلى المجابهة، فإن الأسباب العميقة لأزمة 26 جانفي 1978 يجب البحث عنها في الأهداف السياسية للسياسة التعاقدية.
وفي الواقع، لم يكن الاتحاد العام التونسي للشغل في التصور الأساسي للعقد الاجتماعي مجرد شريك اجتماعي مثل الأطراف الأخرى، وإنما كان أيضا شريكا سياسيا وحليفا للسلطة التى راهنت على سياسة جديدة قدمتها على أنها بديل عن سياسة التعاضد وعن التعددية السياسية. وهذا الدور الجديد الذي أسند إلى اتحاد الشغل مكنه من تعزيز وزنه في التفاوض واستغلال نقاط ضعف النظام السياسي واحتلال الفضاء الذي تركه الحزب شاغرا على الساحة السياسية. ثم إن التفتح السياسي لاتحاد الشغل على تيارات المعارضة خاصة بعد مؤتمره الأخير في مارس 1977، جعل منه منافسا سياسيا للحزب بعد أن كان حليفا له ممّا أدّى إلى المواجهة.
وخلاصة القول فإن الاضراب المعلن عنه يوم 26 جانفي 1978 لم يكن إضرابا تقليديا ناتجا عن نزاع جماعي (Conflit Collectif) في نطاق العلاقات الشغلية بين مؤجرين وأجراء على مستوى قطاع أو على مستوى مجموعة محدودة من المؤسسات الاقتصادية بل كان إضرابا عامّا دعا إليه الاتحاد جميع الأجراء في القطاع الخاص والعام وفي جميع أنحاء البلاد فهو يتجاوز إذن نطاق العلاقات الشغلية ويرمي إلى تحقيق أهداف سياسية بالدرجة الأولى، ذلك أن الإضراب العام هو بمثابة سلاح التدمير الشامل إذ أن هدفه لا يمكن أن يكون غير زعزعة شعبية النظام السياسي بل شرعيته.
فهذا الاضراب كان أولا ردّ فعل عنيف استنكارا للممارسات الاستفزازية التى استهدفت إطارات ومقرات الاتحاد في بعض الجهات، وهي ثانيا تنديد بالسياسة الاقتصادية والاجتماعية التى تنتهجها الدولة، كما يتضح ذلك من اللائحة العامة الصادرة عن المجلس القومي للاتحاد المنعقد أيام 3 ? 9 ? 10 جانفي 1978 حيث جاء فيها : "إن المجلس القومي بعد تقييمه الانجازات التى حققها الاتحاد منذ مؤتمره الأخير وتقييمه للواقع الاقتصادي والاجتماعي الحالي للبلاد وبعد تحليل للوضع السياسي الراهن يؤكد أن الاتحاد لا يرضى أن تتجه سياسة الحكومة إلى تدعيم طبقة رأسمالية بجميع الوسائل وعلى حساب المصلحة الوطنية خاصة وأن هذه الطبقة تربط مصالحها بمصالح الرأس مال الأجنبي الاستغلالي..."
ويتضح إذن مما سبق أن الغاية من الاضراب العام هي "تغيير سياسية الحكومة الاقتصادية والاجتماعية، وفي هذه الحالة فإن الاتحاد تصرف هذه المرّة بصفته منظمة شعبية لها مشروع مجتمعي مختلف عن مشروع الحزب والدولة بعد أن كان حليفا للحكومة ومساندا لمشروعها الليبرالي في بداية السبعينات.
وهنا تبرز الطبيعة الوطنية التقدميّة والشعبية للاتحاد العام التونسي للشغل الذي يحتفل اليوم بعيده الرابع والستين والذي تميز منذ تأسيسه عن سائر المنظمات النقابية حيث كان نضاله يهدف لا فقط إلى الدفاع عن حقوق الأجراء المادية والمعنوية بل وكذلك إلى المساهمة في بناء المجتمع على أساس قيم الحرية والعدل والديمقراطية والرقي المستمر.
تونس في 18 جانفي 2010
محمد الناصر
(1) نص الميثاق الاجتماعي على اتفاق الأطراف لوضع مقاييس الانتاج في مختلف القطاعات بداية من 1977.
(1) التذكير بتصريحات للسيد محمد المصمودي حول قدرة الزعيم الحبيب عاشور على تحقيق الوفاق الوطني في تونس وتوفيق التضامن مع الشعب الليبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.