إرث ثقيل تركه لنا الشهداء، وحتى لا يذهب الدم الذي نزف هباء. يجب أن نعي حجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا اليوم، ليس بمنطق الوصاية وليس بمنطق الأوصياء وما أكثرهم اليوم، لكن بروح الثورة التي تعني القطع النهائي والنوعي مع الماضي. إن ماراكمه الشعب التونسي من معاناة وقهر وظلم طيلة عقود جعله ينفجر في لحظة تاريخية يمكن اعتبارها لحظة بلوغ التراكم الكمّي لأزمة اجتماعية بلغت أوجها وانتظرت القطرة التي تفيض الكأس، فكان محمد البوعزيزي هذه القطرة التي أضاءت طريق الشباب التونسي، حين نقول إنه إرث ثقيل فلأننا نرى ما يجعلنا نذهب حزانى الى أضرحة الشهداء لنعتذر لهم! لم نقدّر الهدية التي قدمتموها لنا، لم نعتن بالوردة الحمراء التي أينعت من دمائكم. نعتذر ونحن نرى من يتاجر بدمكم في وسائل الاعلام العالمية والوطنية حتى النخاع! نعتذر ونحن نرى من يتسوّل باسمكم وبدمكم على أعتاب الدول والبنوك الأجنبية،. نعتذر ونحن نرى صفوف المطالبين بالزيادة في الاجور والمطالبين بالشغل وبشتى المطالب ودمكم لا يزال ساخنا وقتلتكم مازالوا يصولون ويجولون في البلاد ويتحدثون باسم الثورة والثائرين. نعتذر ونحن نرى الأصوات المأجورة وكلاب الحراسة من أبواق الدعاية للنظام السابق وهي تتغنى بأسمائكم اليوم وقد ارتدت الأقنعة الثورية. تكاثر الثوريون بعدكم يا سادتي الشهداء تكاثروا حتى أصبحنا نشك في أنفسنا وأسمائنا، وشوارعنا. أين كنا قبل 14 جانفي؟ كيف لم نكتشف كل هذه الطاقات والمواهب الثورية!؟ حتى لا نسيء الظن بكل هؤلاء لن نتساءل أين كان هؤلاء الثوريون ولن نبحث في الأمر كثيرا حتى لا يصيبنا الصداع من القوائم والاسماء التي كانت في الضفة الأخرى وقد امتهنت التطبيل والتصفيق، فلا بأس أن تطبّل اليوم للشعب وللثورة. فالأمر تغيّر اليوم والشعب يعرف طريقه فلا أحد يدّعي القدرة على رسم هذا الطريق، هناك أمر جديد، درس جديد لم يفهمه الاوصياء والادعياء وهو أن الشعب لا يصدّق سوى دماء الشهداء، فوحدها الكفيلة برسم الدرب الى الحرية والكرامة، لم يعد ينفع منطق المزايدات والادعاءات فهناك رقابة شعبية صارمة وذاكرة شعبية لا تنسى شيئا. ليس من السهل اليوم الحديث عن الزعماء والقادة، فإرادة الشعب هي المحدد وهي المتعدد والمختلف. وما يطمئن حول المستقبل والمصير هذه القدرة على المواجهة والانتفاض التي أثبتها الشارع التونسي في اسقاطه لحكومة »الغنوشي« بعد عدة مسرحيات فاشلة أيضا الامر متشابه في مصر فالرقابة الشعبية حاصرت حكومة »أحمد شفيق« وأسقطتها، كما حاصرت الجماهير المصرية مقرات »أمن الدولة« ولا حقتها من أجل كشف الماضي الاجرامي لهذا الجهاز الأمني. الشعب لا ينسى قد يتحمّل لسنين طويلة لكن موعده مع الشمس والحرية يأتي في نهاية الأمر طال الزمان أم قصر. يفرض الشعب ارادته في نهاية الأمر يجبر أعداءه على الاعتراف بكرامته ومواطنته وسيادته لكن الى أي مدى يكون هذا الاعتراف؟ أليست هي لعبة الليل والنهار ولعبة النور والظلام؟ إن تراجع القوى الرجعية أمام الهبّة الشعبية لن يكون الا وقتيا لأن هذه القوى لديها قدرة الحرباء على التشكّل وإعادة ترتيب بيتها من جديد. هل تعني الثورة ان أعداء الشعب ومصّاصي دمائه انتهوا الى الابد؟ لهذا قلت إنه ارث ثقيل تركه الشهداء. كيف سنفهم الوصية؟ حتى لا تلد لنا البلاد طغاة جُددا حتى لا يجثم على صدور الفقراء النهابون بشكلهم الجديد فمنذ »سبارتاكوس« قائد ثورة العبيد الى اليوم هناك دائما أسياد بأشكالهم التاريخية المختلفة وعبيد أيضا بأشكالهم التاريخية المختلفة. فنحن ورثة القهر وحملة وصايا المقهورين منذ آلاف السنين. نحن أمل أسلافنا من العبيد والأقنان والعمال الذين بَنَوْا العالم وعاشوا في الدواميس المظلمة، هكذا يرى »والت بيتجامين« معنى الثورة فالتاريخ منذ بدايته حتى الآن كتبه الاقوياء لكن بدم المسحوقين. فهل آن الأوان ليكتب هؤلاء تاريخهم، أم تنتظرهم معركة أخرى، أشرس ضدّ أفعى الرأسمالية المتوحشة التي كلما قُطعت لها رأسٌ نبتت لها آلاف الرؤوس! لمن يعتقد أن الامر انتهى نية سيئة حتى وان كانت لا واعية فالأمر لن ينتهي بهذه السهولة، إنه الاستغلال والاستعباد على مدى آلاف السنين. يحتاج الامر الى ثورة على مختلف الأوجه والأبعاد، ثورة خاصة في البنية العقلية، حتى نقتنع أن الحياة في حد ذاتها هي فعل مقاومة وان الحرية هي فعل تحرر، ولكن الأنانية تقودنا اليوم الى قطف ثمار دماء الشهداء دون وجه حق لأننا لسنا بجدارة تلك الدماء إنها ليست لنا. إنها لجيل قادم يجب ان نُعبّد له طريق الانسانية. إن الأنانية تمنعنا من رؤية حقيقة الصراع واسقاط الأقنعة، لكن في نهاية الأمر »على هذه الأرض ما يستحق الحياة« كما قال محمود درويش.