يتوهم بعضهم أنه عندما يحيلنا إلى مصطلح جديد ينأى بنا عن مصطلح قديم سيء؛ فمصطلح "مواطن" الحداثي مثلاً خيرٌ عنده من مصطلح "رعية" التقليدي؛ ولا يدرينا أنه إنما يحيلنا على ثقافة في رأسه غير ثقافتنا. فليس المصطلح الجديد، بالضرورة جديداً إلا من ناحية خروج المعنى باللفظ من لغة إلى لغة، دون أن يكون هذا المصطلح شريفاً في ذاته والآخر دنيء، بل لجهل المتكلم في نفسه بمقومات الألفاظ في هذه اللغة دون تلك. ولولا أن الناس مفتونون في الغالب بتغيير المصطلحات تيمناً بتغيير الأحوال لما رأينا خلافاً في المعاني بين مصطلحات كثيرة في علوم السياسة مثلاً عبر أجيال؛ إلا ما يكون من تحميلك هذا المصطلح أو ذاك ما تريده من معان، قد يكون مثلها أو أشرف منها موجوداً في المصطلح الذي تزدريه، أو للجهل بالثقافة التي تزدريها به. ودون أن نعاكس تيار الحداثة في استخدام المصطلحات الأكثر رواجاً في سياسات الأمم في العصور الأخيرة، نقول إن الفرد "الرعية" في دولة البايات مثلاً في تونس كان بإمكانه الاعتراض على الأمر العلي (القانون) ، الذي يصدره الباي في الرائد الرسمي ثلاثة أيام قبل أن يصبح نافذ المفعول؛ وأن الفرد "الرعية" كذلك في الأحكام السلطانية في دولة الإسلام منذ العصور الأولى له أن يشترط في المتولى لأمره، من خليفة أو وال أو أمير أو صاحب شُرَط، أو صاحب حِسبة، أو نحو ذلك، الشروط التي يأتمنها بها على نفسه وعرضه وماله، وتسقط طاعته بدونها. وهذه الشروط منها الاستقامة والثقة والعدالة والورع، وغير ذلك مما هو معروف في فقه السلطان؛ وله أن لا يقبل بتوْليته، إذا أخلّ بشرط من تلك الشروط، وله أن يقاضيه ويقيم عليه الحدّ، إذا تبينت مخالفته لشروط الولاية، أو ما نسميه اليوم الوظيف. أمّا ضعيف اللغة، الذي لا يقوم لمعنى "الرعية" في ذهنه إلا معنى السائمة التي ترعى، ويأبي أن يشبّه نفسه في السياسة بها، فليس المعنى في الاصطلاح السياسي لها في الإسلام هو ذاك، إلا على وجه التشبيه، لأن اللغة كلها في المعاني قائمة على الرمز والتشبيه والمجاز. ورب تشبيه يقرّب المعنى، ولا يعنيه بالضرورة في المساواة بين الحيوانية المطلقة والكرامة الإنسانية. والعبارة المشهورة المأثورة: »كلّكم راع وكلّ راع مسؤول عن رعيته«، كانت تكتب، ولعلها لا تزال إلى اليوم على واجهات أبواب السلطان أوالمؤسسات، كما نقول اليوم. فتصوّرْ نفسك اليوم وأنت تقول "مواطن"، فهل أنت قادر على تحديد العلاقة بينك وبين من يحكُمك بقولك له: إنك "مواطن" مثلي مثلك، ولا أنا سائل لك ولا أنت مسؤول عني؟ لا طبعاً، حتى تكون في حاجة إلى لفظ مخصوص لبيان علاقة "المساءلة" التي تربطك به إذا أخل بواجب المسؤولية نحوك وحق الطاعة للمسؤولية التي له عليك. أمّا أن "تُواطنه" على الأرض، وتُحمّل هذا اللفظ معان سياسية لا يعبّر عنها اللفظ بالضرورة (المشاركة والنديّة) فهذا، وإن كان يدلّ على علاقة المساواة المطلقة في الوطن لا يدلّ على مَناط الحكم، وهو عقد الطاعة والقيادة بين الفرد وغيره في المجتمع الإنساني، وكما قال الشاعر: الناس للناس من بدو وحاضرة:: بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خَدَمُ ونحن، بعد ثورتنا، أحوج إلى علاقة أوضح بين من يحكمنا وبيننا. فلو كانت القرارات، التي يصدرها المسؤول بعد الثورة - في غياب المؤسسات الدستورية للسلطة - تُعرَض للمراجعة قبل البتّ فيها، لما تعكّر مزاجنا بتسميات أو تعيينات على رأس السلطة في هذا المستوى أو ذاك دون الحد الأدنى لمطالب جماهير الثورة أو حيثياتها. ولتلقّتْ الإدارة اعتراض الآحاد أو الجماعات على شُبهات مثلاً، في سِيَر الأفراد المبوّبين للسلطة قبل البتّ في تعيينهم؛ ولما قام وزراء بتزوير مسيرات نضالهم أو كفاءاتهم لتقديم أنفسهم على غيرهم، بمأمن من كل مراجعة أو شفافية؛ ولما ظهرت نصوص قانونية أو ترتيبية ليُطعن فيها لاحقاً أو تتبين فيها ثغرات فيما بعد؛ فلا يكون الملجأ، إلاّ إلى التغاضي والهروب إلى الأمام أو إلى قلة المبالاة والحرج من الاعتذار أو التراجع، أو أيضاً التمادي الخفي في المغالطة وقلة المناصحة. ومَا كانت تعيينات في هذه اللجنة أو تلك لتحظى بالموافقة العامة أو التوافق العام لو لم يكن تعريف شاف ضاف بأصحابها، حتى يقوم بحقّهم ما كان يقوم بحق كل مسؤول على مصلحة عمومية، من الكشف الدقيق أمام هيئة محلّفة، عن شخصيته وطبيعة تكوينه ومستوى ثقافته، فيما هو مبوّب إليه من مسؤولية. وكلنا يعرف، وأوروبا أقربُ إلينا من أنفسنا، ما يقوم في دولها من امتحان عسير لكل مبوّب لمسؤولية فيها، حتى أنه في بعضها يسقط الممتحَن لضعف في لغته أو ثغرة في معلوماته الجغرافية أو التاريخية لبلده أو لمعلومة في دينه أو دستور بلاده وقوانين هيئة الأممالمتحدة أو لوائحها، وأحياناً يسقط لعيب خَلقي فيه. وفي السابق، كانت السلطة الاستعمارية في بلادنا لا تنتدب لأعوان الأمن، إلا من لا يقل طوله عن قياس أدنى، وغير ذي قصر نظر أو لياقة بدنية. لكن يظهر أننا نسينا تقاليدنا وتقاليد غيرنا الحسنة في التبويب للمسؤولية، أو لعلّ بعضنا جعل يغلّب مزاجه أو عيوبه أو نقائصه، أو قلة ثقافته بوطنه أو بدينه وبلغته القومية ليحكُمنا رغماً عن أنفسنا، حتى بعد ثورة الكرامة والحرية والعزة. فيكفينا التحكّم بحريتنا بغير التحكّم بحرية ذاته، على مدى سنوات طوالاً، وبسْط المواثيق للتوقيع عليها وإغفال التوثيق بها على ضمائر أصحابها قبلاً. دعُونا على حرّيتنا، ولا تكبّلونا إلا بالأخلاق القويمة والدين القويم والتقاليد السمحة، ولا تُغلّبوا علينا أراذلنا بعنوان الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة ومجلات الحقوق المُفتراة على أصحابها. فما أحرانا، عملاً بالثورة التي حررتنا من مكبِّلات الماضي الأثيم ومخلفاته، أن لا نستمرّ في الترهات الانتخابية لمؤسساتنا الدستورية؛ واشتراط شروط أعمق من تلك العمليات اللوغارتمية السطحية، كأن يُكشف عن ملف كل منتخِب (بكسر الخاء. أصح من ناخب) وكل مترشح قبل امتهانه للعملية الانتخابية، ليكون أصلح بالمسؤولية من غيره، وضبط شروط تشجيعية للشباب مثلاً، كعدم التدخين، أو للنساء كالطلاق المبغّض، وغير ذلك من المبغّضات الحلال عند الله وعند المجتمع، ليُصلِح سيرتَنا بمن يرعانا، أو سيرة من يرعانا إكراماً للمسؤولية وأداء للأمانة الثقيلة. أمَا رأينا أن السيد الباجي قائد السبسي نفسه يستعرض، في أول تولٍ له للمسؤولية بعد الثورة، ما يملك وما لا يملك، وما هو من سيرته وما هو ليس من سيرته وإنما من سيرة غيره؟ أليس تصلح الأمة إلا بفضلائها؟ فلنبحث عن القدوة السيئة في حاكمينا قبل أن نبحث عنها في صناديق الاقتراع، لتخرج لنا منها الأغوال دون دراية. فهل في غير دين الإسلام من هو أكرم منّا في المسؤولية؟ فهذا الرئيس في ذاك البلد، كاد يسقط ترشيحه للثّمالة في حانة كان يوماً في طيشه يرتادها؛ وذاك الرئيس كاد يسقط ترشيحه للظن بهروبه أو تهرّبه ، في حادثة عَرَضتْ، من الواجب الوطني.. وذاك من خفّت موازينه في الجباية، أو تعطلت لغته لدى التحقيق معه في حادثة تحرّش .. وهكذا. فإذا كان دأب المترشح أن لا يُنفِّر المنتخِب منه، فدور المنتخِب مثلي أن يوَعّي غيره المنتخِب، حتى لا يستغفله أحد من المترشحين. فكثير من السياسيين، إذا فَسَدوا، أو أفسدتْ السلطة من سيرتهم يصبحون لغير السياسة أفضل، أو أفضل لسياسة أنفسهم من سياسة غيرهم بسياستهم.