وتعبر هذه النقطة عن الاختلاف الجذري بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية ذلك أن مجال ملاحظة العالم الطبيعي لا يعني شيئا بالنسبة الى لأجزاء المكونة له، بينما تمثل البيانات التي يدرسها العالم الاجتماعي شيئا مختلفا لأنها تخضع الى نظام فريد، ويعبر شوتز عن وجهة نظره قائلا: »تعتمد مقولات التفكير التي يكونها العالم الاجتماعي على مقولات التفكير الشائعة بين الناس الذين يعيشون حياتهم اليومية، ويقيمون علاقات فيما بينهم، وبالتالي فان المقولات التي يستخدمها عالم الاجتماع هي مقولات من الدرجة الثانية، ذلك انها تمثل مقولات معتمدة على مقولات أخرى كوّنها الناس العاديون خلال حياتهم اليومية، ان هذه المقولات الأخيرة تمثل السلوك الذي يلاحظه العالم في محاولة لتفسير في ضوء القواعد العلمية المستقرة، ومعنى ذلك ان الوقائع التي يتناولها عالم الاجتماع هي وقائع مفسرة بذاتها، وربما كانت هذه القضية هي السبب الاساسي الذي دفع شوتز الى التمييز بين التحليل الفلسفي للمعنى والفعل من ناحية، والعلم الاجتماعي الامبيريقي من ناحية اخرى. فالأخير يهتم بوصف محتوى »عالم الحياة اليومية« والمواقف الطبيعية. وأعتقد ان هذه التمييز يمثل أعظم اسهام قدمه شوتز لعلماء الاجتماع المعاصرين الذين يبدون تعاطفا مع الفهم الفينومينولوجي للواقع الاجتماعي. ولقد ذهب شوتز الى ان المعرفة العامة الشائعة تتألف من نسق معرفي عام يكون من خلاله الفاعل مقولاته الفكرية التي تساعد على تحديد معالم البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، ويتألف هذا النسق المعرفي من ثلاثة جوانب أساسية : الأول: هو تبادل المنظورات، والثاني: النشأة الاجتماعية للمعرفة، أما الجانب الثالث: فهو التوزيع الاجتماعي للمعرفة، أما تبادل المنظورات فيشير الى كل ما هو مألوف وشائع بالنسبة الى كل الناس، بعبارة أخرى فهو يعبر عن عناصر الحياة العادية من وجهة نظر أفراد المجتمع، ويعتقد شوتز ان المعرفة تكتسب وجودا تاريخيا، ثم ما تلبث ان تنتقل من خلال اساليب او وسائل عامة كلغة الحياة الومية ومعنى ذلك ان المعرفة تنشأ نشأة تاريخية وتكتسب وجودها الحقيقي من خلال مجموعة من العمليات التاريخية وفيما يتعلق بالتوزيع الاجتماعي، للمعرفة نجد شوتز يوضح ان »المعرفة المتداولة« تتوزع اجتماعيا توزيعا متباينا مما يؤدي في نهاية الامر الى ظهور قلة من الناس بالمبادءة الفكرية في مقابل فئة اخرى تتخذ دور الاستجابة الفكرية ورغم ان شوتز قد طرح قضية التباين المعرفي، الا انه لم يوضح لنا كيف تتحول الاختلافات المعرفية الى تفاوتات في ممارسة القوة. وتقودنا هذه النقطة الى مناقشة شوتز لقضية المعرفة وعلاقتها بالقوة، فعندما حاول وصف التباين المعرفي بين الناس، وجد ان المعرفة في المجتمع الحديث تتجه الى الارتباط بالقوة او السلطة، وانها (أي المعرفة) قد تحولت في نهاية الامر الى سلاح يستخدم في المواقف الفعلية، ولما كان شوتز قد اعتبر المعرفة العامة الشائعة مصدر المعرفة المتخصصة، فإن القوة لابد ان تفرض نفسها فرضا، وعلى الاخص في المواقف التي قد تغترب فيها الاخيرة عن الاولى، ورغم ان شوتز كان واعيا بقضايا البناء الاجتماعي، والايديولوجيا، والتدرج، والقوة، فضلا عن زيادة الهوّة بين المتخصص والرجل العادي، الا انه لم يقف كثيرا عند هذه القضايا تاركا إياها لعلم الاجتماع المعرفي. وربما دفعتنا هذه النقطة الى القول بأن شوتز قد اقترب كثيرا من علم الاجتماع »الامبيريقي« بتأكيده لدور »الحياة اليومية« في تشكيل البناء الاجتماعي، رغم تسليمنا بجرأته المنهجية النقدية، وعلى منهجيات جديدة، الا انه لم يوضح لنا كيف يكتسب التفاعل الذاتي المتبادل طابعا ماديا، ويبدو ان ذلك هو الذي دفع احد الباحثين المعاصرين الى القول: »يدهش المرء حينما يمعن التفكير في كتابات شوتز: إذ أننا لا نستطيع تجاهل الحقيقة التي مؤداها، ان الوجود الاجتماعي والمادي يؤثر بشكل مباشر على الوعي الانساني، ولا شك في ان ما قدمه شوتز يمثل اسهاما بارزا في النظرية الاجتماعية« وإن كنا نجد صعوبة في قبول مسلمته الذاهبة الى ضرورة تخلي الباحث عن كل المقولات الفكرية الجاهزة والانطلاق مباشرة من عالم الحياة اليومية، رغم التباين الواضح بين الفينومينولوجيا والماركسية، الا انهما يمثلان في نهاية الامر جهدين نقديين سعيا الى تقييد الاتجاهات السوسيولوجية الكلاسكية، وطرحا بذلك اتجاهين جديدين في دراسة المجتمع، ويبدو ان القصور الكامن في الماركسية الكلاسيكية والفينومينولوجيا التقليدية هو الذي دفع بعض الباحثين المعاصرين الى محاولة المزاوجة بين هذين الاتجاهين الفكريين، مما أدى الى ظهور اتجاه يطلق عليه الماركسية الفينومينولوجية، أما مبرر ظهور هذا الاتجاه فيتمثل في الاعتقاد المتزايد بأن الماركسية الكلاسيكية قد عجزت عن تفسير واقع المجتمعات الصناعية الحديثة بعامة، وضعف الوعي الطبقي بخاصة وأن الفينومينولوجيا تستطيع تعميق الفهم الماركسي في هذا المجال، والمؤكد ان النظرية الاجتماعية المعاصرة قد أفادت الكثير من المحاولات النقدية الفينومينولوجية لعلم الاجتماع الوضعي، كما حققت فائدة مماثلة الانتقادات الماركسية لبعض المحاولات النظرية المعنية بتحليل العلاقات الاجتماعية وعلى الأخص الاقتصاد السياسي الكلاسيكي. وفي حدود معرفتنا الحالية بالتراث الماركسي الفينومينولوجي يمكن القول ان الماركسيين الفينومينولوجيين يحاولون معالجة ما أطلقوا عليه »أزمة الماركسية« بالرجوع الى التصورات الفينومينولوجية وعلى الأخص تلك التي طرحها هوسرل، وتستند هذه المحاولة الى قضية اساسية هي: ان الماركسية ذاتها ما هي الا نتاج الفينومينولوجيا بقدر تمثل الاخيرة دعائم الاولى، ومن ثم فان محاولة المزاوجة بينهما من شأنها فهم العلاقة بين الانسان والمجتمع، واذا جازلنا ان نحدد المبرر الحقيقي لظهور الماركسية الفينومينولوجية كاتجاه نقدي في علم الاجتماع الحديث، قلنا انه يمثل محاولة لتجاوز الماركسية الكلاسيكية والانتقال بها الى مستوى أعمق من الفهم والتحليل، على أنني اعتقد ان ما قدمه »انيزوباسي« اPaciب يمثل أعظم المحاولات التوفيقية بين الماركسية والفينومينولوجية التي ظهرت حتى الآن. ان ما قدمه هذا المفكر يتجاوز عملية الربط بين هذين التيارين الفكريين ليشكل جهدا تأليفيا ابداعيا مستندا الى تحليل عميق لكتابات كل من هوسّرل وماركس، ولقد ناقش باسي اهتمام كل من هذين الرجلين بقضيتي الاغتراب والتشيؤ، كما حدد موقفهما من الازمات التي وجهها كل من العلم والرأسمالية والماركسية. وعندما شرع باسي في محاولة تحديد نقاط الالتقاء بين الفينومينولوجيا والماركسية، عكف على كتابات هوسّرل وماركس وعلى الاخص ما يتصل منها بأزمة الوجود واغتراب الانسان. ولقد أدى تحليل باسي لكتابات هوسّرل الى تأكيد أهمية دراسة الموقف لمعرفة الانسان الذاتية، وفهم المجتمع والطبيعة. أما تحليله لكتابات ماركس فقد دفعه الى ابراز الاهمية النقدية الاقتصاد السياسي والرأسمالية، ولقد حاول باسي بعد ذلك تحديد العناصر المشتركة التي تضمّنتها كتابات ماركس وهوسّرل وهي: أهمية التاريخ، والرغبة في تحقيق وجدة العلوم، واغتراب ذاتية الانسان، ويتضمن كتاب باسي الشهير »وظيفة العلوم ومعني الانسان« تحليلا ممتعا لأزمة العلوم الأوروبية، كما طرحها هوسّرل، كما يضم قراءة جديدة لماركس في ضوء معالجة شيقة لأعمال »لابريولا« اLabriolaب و »جرامشي« اGramciب و »ميرلوبنتي« اMarleau Pontyب و »جان بول سارتر« اSartreب ، ومن المدهش حقا ان نجد باسي يتجاهل كتاب لوكاش اLokachب الشهير »التاريخ والوعي الطبقي« رغم أهميته المتزايدة في الفكر الفينومينولوجي الحديث وقبل ان ننتقل الى مناقشة الاتجاه الماركسي الفينومينولوجي: وتأثيره على النظرية الاجتماعية المعاصرة، أجد من الضروري تحليل قراءة باسي الجديدة لكتابات هوسّرل وماركس. استهل باسي تحليله بابراز مفهوم »أزمة العلوم الاوروبية« كما طرحه هوسّرل، تلك الازمة التي تتمثل في عجز هذه العلوم عن اثارة القضايا الاساسية المتصلة بصميم وجود الانسان، ونقد هوسّرل للعلم، فالاخير ينهض على قضية اساسية هي ان الانسان قد اصبح شيئا خاصا ليس فقط لرأسمال والآلات، بل ايضا للعلم الذي جعل منه شيئا في عالم تسيطر عليه الاشياء.