تجسد المصحات التابعة للضمان الاجتماعي التداخل بين قطاعي الصحة والضمان الاجتماعي وهما من القطاعات الحيوية التي لها تأثير كبير وحساس على حياة الشغالين اليومية. وقد تعرضت هذه المصحات في السنوات الأخيرة إلى محاولات لإرباكها مما أنهكها وحدّ من عطائها. سنحاول تشخيص الصعوبات والعراقيل التي تعرضت لها المصحات وحقيقة التحديات التي واجهتها مستأنسين بتجربة مماثلة حصلت للمصحات التابعة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بالمغرب عسى أن تساهم هذه الأفكار في بلورة آفاق لاستعادة المصحات دورها بشكل أنجع بما يمكن من تحسين الخدمات الصحية لفائدة المضمونين الاجتماعيين ويزرع الطمأنينة في نفوس العاملين بها. فقد تم الشروع منذ أواسط سبعينات القرن الماضي في بناء المصحات بوتيرة سريعة نسبيا وذلك على مدى سبع سنوات أي بمعدل مصحة كل سنة. وجاء هذا القرار بعد أن اتضح عدم قدرة الصحة العمومية على الاستجابة للطلبات المتزايدة للمضمونين الاجتماعيين فضلا عن عدم جدوى الطريقة الجزافية في تقدير معاليم العلاج. وقد تطلب بعث المصحات استثمارا ضخما عكس فترة الانتعاشة التي شهدها قطاع الضمان الاجتماعي سواء على مستوى تطور المداخيل أو على مستوى توسيع الخدمات وتحسينها. ولم يكن الأمر مقتصرا على تونس بل شمل عدة بلدان من العالم النامي التي تحسنت مداخيلها بفضل ارتفاع أسعار بعض المواد الأولية مثل النفط والفسفاط. وشهد القطر المغربي نفس الظاهرة حيث نما اقتصاده وانتعشت مداخيله فأحدث صندوقه الوطني للضمان الاجتماعي خدمات جديدة ومماثلة كالمصحات. وخلافا للفترة السابق ذكرها بدأ قطاع الضمان الاجتماعي منذ نهاية الثمانينات يواجه صعوبات متزايدة مع برنامج الإصلاح الهيكلي الذي أقر انسحاب الدولة التدريجي من المجالات الاجتماعية. ثم تفاقم هذا التوجه في بداية التسعينات إثر انضمام البلاد إلى منظمة التجارة العالمية وإبرامها اتفاقية تبادل حر مع الاتحاد الأوروبي وما تبع ذلك من غلق للمؤسسات المحلية وتراجع للمساهمات وتسريح للعمال. فقد تراجعت مداخيل الصندوق سواء المداخيل المتأتية من الاشتراكات أوالموارد الناتجة عن الخطايا. كما انخفض نمو سعر الفائدة في السوق المالية وهو ما أثر على مردود توظيفاته المالية. ومقابل ذلك ارتفعت نفقات الصندوق بسبب تضخم النفقات المرصودة للجرايات ومواصلة التحويلات لفائدة وزارة الصحة العمومية ومصاريف لا علاقة لها بمجال الضمان الاجتماعي. وعلاوة على ذلك فقد ضرب فيروس العولمة القطاع الصحي العمومي وذلك من خلال تردي الخدمات ونقص الأدوية وتعطب الآلات الطبية المتكرر والاختلال الكبير بين الجهات ونزوح الكفاءات الطبية من المؤسسات العمومية نحو القطاع الخاص. وتزامنت هذه المظاهر مع تشجيع القطاع الصحي الخاص بصدور القانون المتعلق بالتنظيم الصحي سنة 1991 الذي نص على تغيير طبيعة مؤسسات الصحة العمومية من مؤسسات ذات صبغة إدارية إلى مؤسسات ذات صبغة صناعية وتجارية فأصبحت مسيّرة حسب مقتضيات المجلة التجارية وبالتالي محكومة بمنطق الربح. ومن الطبيعي أن يتأثر في ظل هذا الوضع أداء المصحات سواء من جانب الوضعية المالية للصندوق الذي بدأت موازينه تختل وتراجع بالتالي دعمه للمصحات أو من جانب القطاع الصحي الذي عجزت محاولات تأهيله في المحافظة على إبقائه مرجعا في الميدان. في ظل هذا الوضع المتسم بأزمة قطاعي الضمان الاجتماعي والصحة طرح مشروع إصلاح نظام التأمين على المرض وطُرح بالتالي موضوع مصير المصحات باعتبارها هيكلا تابعا للمؤسسة المتصرفة في قطاع الضمان الاجتماعي من جهة وباعتبار تدخلها في المجال الصحي من جهة أخرى. فتمت الدعوة إلى عقلنة التصرف الإداري وترشيد الاستهلاك في مجال العلاج ومن بين الآليات المقترحة « التدرج نحو الفصل بين الهياكل الممولة للخدمات الصحية والمؤسسات الصحية المسدية لهذه الخدمات». وإذا طبقنا هذا التوجّه على المصحات فإنه يؤدي إلى فصلها عن صندوق الضمان الاجتماعي. كانت كل الخيارات مطروحة من الناحية النظرية بما في ذلك التفويت في المصحات للخواص بل حتى إلى الأجانب. فمنذ التسعينات بدأ الحديث عن خوصصة القطاعات الاجتماعية والتمهيد لذلك قانونيا. ومن أهم الحجج المقدمة أن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي غير مؤهل للتصرف في المصحات باعتباره مؤسسة تأمين وليس مؤسسة علاج. وفي خضم النقاش حول إصلاح نظام التامين على المرض كان يتم التنظير لتحويل المصحات إلى مؤسسات عمومية للصحة كمحاولة لفصلها عن كيانها الأصلي كما جاء على لسان وزير الشؤون الاجتماعية آنذاك:» إن الرأي السائد تمثل في تغيير صبغة هذه المؤسسات إلى مؤسسات صحية عمومية على غرار مستشفيات الدولة التي شملها الإصلاح الاستشفائي ومنحها صبغة استقلالية في مستوى الإدارة والتصرف» . وفي نفس الاتجاه أعدّت السلطة بمشاركة خبراء أجانب حول ملامح دور المصحات في المنظومة المستقبلية للتأمين على المرض. ولم يتم الكشف آنذاك عمّا قدّمه هؤلاء الخبراء. ثم تم تدارس مشروع آخر اكتنفه هو الآخر اللبس والغموض . ويبدو أن ما جمع بين هذين المشروعين هو إعطاء المصحات « الذاتية المالية « في مرحلة أولى دون القيام بأي استثمار لإصلاحها وتأهيلها ثم التخلص منها عندما يتبين أنها خاسرة وغير قادرة على منافسة الهياكل العمومية والخاصة. ورغم كل هذه التحديات فقد ظلت المصحات صامدة أمام محاولة إبعادها عن الضمان الاجتماعي بفضل « مضادات حيوية» تمثلت في تمسك المضمونين الاجتماعيين وأعوانها بها كمكسب لا يجوز التفريط فيه. فلئن كان الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مؤسسة إدارية تتصرف في أنظمة الضمان الاجتماعي في القطاع الخاص فإن تدخله في القطاع الصحي لا يتنافى مع مهمته الإدارية. فقد نص القانون المحدث للصندوق ، على حقه في القيام بعمل صحي واجتماعي علاوة على مهمته الأصلية المتمثلة في التصرف. كما أن عديد المؤسسات الاقتصادية بالبلاد كانت لها آنذاك مصالح طبية لفائدة أعوانها فضلا على أن العديد من البلدان تقوم فيها مؤسسات الضمان الاجتماعي بالتدخل المباشر في الميدان الصحي. وكان على قانون نظام التأمين عن المرض الصادر في 2004 أن يحسم مصير المصحات التي كثر بشأنها الجدل إلا أن ذلك تأجل إلى حين صدور أمر سنة 2007 حيث تم الاقتصار على تصنيف المصحات ضمن المنظومة الصحية العمومية. وبذلك لم يتم تحويل المصحات إلى مؤسسات عمومية للصحة و لا تم التفويت فيها رغم إعادة طرح الموضوع من جديد عند تطبيق المرحلة الثانية من نظام التامين عن المرض في جويلية 2008. ولمزيد فهم خطر ما كان يخطط للمصحات نورد تجربة مماثلة عاشها القطر المغربي الشقيق الذي يتصرف صندوقه في 13 مصحة. ويبرز الجدول المصاحب تزامن عديد الإجراءات في نفس الفترة . فقد بدأت في المغرب محاولات التفويت في المصحات مباشرة بعد صدور القانون الجديد للتأمين على المرض في أوت 2005 والمسمّى بقانون التأمين الإجباري وكانت الخطة تقضي بإخضاع المصحات التابعة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي « للتسيير المفوض» بحجة « حالة التنافي التي نص عليها القانون المتعلق بالتأمين الإجباري « . إذ اعتبر بعضهم أن المصحات « تمارس بدون وجه قانوني». وفي هذا الاتجاه صدر قانون ينصّ على منع ممارسة مهنتي تقديم العلاج والتأمين في نفس الوقت. وبمقتضى هذا التحوير كان لزاما على صندوق الضمان الاجتماعي « التخلص « من مصحاته في ظرف أقصاه ثلاث سنوات أي قبل أوت 2008. ولذلك أطلقت مصالح الصندوق بالمغرب طلب عروض دولي للتسيير المفوض لمصحاتها الثلاثة عشر. وقد فازت بالعرض شركة صحية أسبانية « أي.أس.بي. هوسبيتال « . إلا أن الخطة فشلت بسبب الاختلاف حول بند ورد بكرّاس الشروط ينصّ على ضمان مالي رفضته الشركة الفائزة بالعرض. فتم إمهالها بسنتين للاستعداد لذلك أي سنتي 2008 و2009. لكن كل شيء تبخّر بسبب الأزمة المالية العالمية سنة 2008. ولم تتراجع السلطات المغربية عن مشروع التفويت فأعادت الكرّة وذلك بإمهال الشركة الاسبانية ثلاث سنوات أخرى تنتهي في 2012. نلاحظ إذن عدة نقاط التقاء مع التجربة التونسية سواء من حيث الظروف التي نشأت فيه المصحات أو من ناحية التحديات التي واجهتها. كما تشابهت محاولات التفويت في المصحات من ذلك إثارة نفس الحجج مثل القول بعدم جواز قيام مؤسسة الضمان الاجتماعي بالتدخل في الميدان الصحي أو الدعوة إلى الفصل بين مسدي الخدمة الصحية وتأمينها وفتح المجال لمنح المصحات الاستقلالية الإدارية والمالية على غرار المؤسسات العمومية للصحة. ومن ناحية أخرى تشابهت ردود فعل الأعوان العاملين بالمصحات سواء بالمغرب أو بتونس وبرز تضامن الشغالين المنخرطين في الصناديق الاجتماعية بغاية الحفاظ على مصحاتهم حيث طالبوا في تحركاتهم بالإبقاء عليها ضمن منظومة الضمان الاجتماعي وعدم التفويت فيها إلى الخواص باعتبارها من أملاكهم وبالتالي لا يحق لأية جهة أن تقدم أية تبريرات للتنصل منها وتمريرها للخوصصة. إن المعطيات المتعلقة بالمصحات المغربية تؤكد تواصل عرضها للبيع والإلحاح في تحديدا التفويت فيها إلى الرأسمال الأجنبي. أما مصحاتنا فلئن تمكنت إلى حد الساعة من الإفلات من التفويت فإن التمسك بها كجزء من منظومة الضمان الاجتماعي مطروح أكثر من أي وقت مضى. كما أن مستقبلها رهين رسم تصور يعيد الاعتبار إلى الضمان الاجتماعي ويجعله في خدمة منظوريه بعيدا عن أي توظيف سياسي أو تهميش إداري.