مازلت إلى حد هذه اللحظة الفارقة من تاريخ تونس استحضر تلك المنعطفات الثورية التي عشنا على وقعها من منتصف شهر ديسمبر إلى اليوم الحاسم 14 جانفي مازلت أتذكر كيف زعزعت قوة اللغة و سطوة الكلمة لغة العنف و صوت الرصاص و أربكت ذاك العنف الأمني الذي استهدف الأفراد و الجماعات، قوى المجتمع المدني و شتى التنظيمات و أصبح الطقس المهيمن و الحالة المعبرة عن استبداد فرّخ ميليشيات ذات عقلية مافيوزية دورها اغتيال العقل وأْدُ الحريات فكانت الثورة في وجه من وجوه لا انقلابا على هذا العنف الممنهج و حسب بل هي انتصار أيضا للفكر والعقل والعلم هي انتصار لقوة اللغة و الكلمة التي هزمت عرش الدكتاتورية و اعتى الأنظمة الأمنية. الم تزعزع كلمة «dégage» و«الشعب يريد»... نظام بن علي الأمني؟ الم تنتصر اللغة على العنف البوليسي و ايديوليوجيا التصفية و تكميم الأفواه فتهاوى عرش الفساد و تلاشت ترسانة الرعب و الخوف تحت وطأة الكلمة و ما تحتويه من شحنة رمزية و صرخة متأججة للتخلص الفوري من كل أشكال الديكتاتورية الجاثمة على جسد الشعب و ما أنتجه من تفاوت اجتماعي صارخ و تنمية مهزوزة عمقت الجرح كانت الثورة إرباكا خلاقا لمؤسسات الدكتاتورية و إعلانا صارخا لتقويض دوائر الفساد و التجهيل و التفقير من اجل إرساء دولة المواطنة و العدالة و الحريات و لكن السؤال الذي يطرح الآن :هل سقطت بالفعل مؤسسات الدكتاتورية أم مازالت قائمة إلى حد هذه اللحظة ? 2-مسار الانتقال الديمقراطي وخطر الدكتاتورية إن السياق الثوري الذي احتضن تعدّد التجاذبات السياسية والايديولوجية منذ سقوط النظام أمر ضروريّ تستدعيه مخاضات التشكل الجديدة ما بعد 14 جانفي و السعي المشروع إلى إحداث الانتقال المرتقب من مجتمع مدني مهزوم إلى مجتمع مدني مستقل و قوي يثري التيارات السياسية و يتفاعل معها على أرضية التمايز و التحاور لتأسيس حراك فكري و إعلامي مستقل يمهد لمدنية الدولة ليضمن المسار الحقيقي للحريات ودون هذا الفصل الواضح بين المدني و السياسي يبقى التوجس مشروعا للانزلاق مرة أخرى إلى ادلجة المسار المدني و من ثمة تجنيده لخدمة المصالح السياسية و تكريس مبدأ ولع السياسة بالهيمنة على يقظة مؤسسات المجتمع المدني و تعطيل دورها النقدي و بدون هذا الحراك الذي يدور بينهما في كنف التمايز يمكن أن نؤسس لانتقال ديمقراطي، وكذلك لحرية الرأي والتعبير والإعلام دور بارز في تفعيل ذلك الحراك ودفع سقفه إلى مستوى التدافع الخلاق. إن أهم استحقاق في هذه المرحلة / المخاض هو العمل على استعادة وهج شعارات الثورة و الاشتغال على مضمونها مجددا حتى يسترجع المسار الثوري فاعليّته فالثورة في البدء لم تكن سياسية بل هي ثورية على أوضاع اجتماعية متردية و صرخة مدوية على حريات عانت الاختناق فكل ممارسة سياسية اليوم الاشتغال على البعد الاجتماعي و تتغافل على مصير الحريات لحساب التجاذبات السياسية الضيقة هو مؤشر لانتكاسات حقيقة بدأت تظهر للعلن و بشكل فاضح. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن و نحن نلمح إرهاصات غليان اجتماعي و محاكمات في السر و العلن على الكلمة الحرة و استهداف صارخ للمثقفين و الإعلاميين أمام الملأ يعيد هاجس الحديث عن مسار الثورة من جديد و يطرح القلق الأتي و هو عبارة عن اقتناع تام بان مؤسسات الدكتاتورية ما زالت قائمة إلى حد هذه اللحظة و تعمل على استدراج أصحاب الفعل الفكري و الإعلامي الحر إلى دوائر الاتهام و التنكيل و تسعى إلى إرباك ذاك الحراك المدني المستقل الذي بدا يتنامى باعتباره الحاضن لحيوية المسار و الضامن لاستمراريته تمهيدا للقضاء عليه حتى تصبح الأقليات المنفلتة و المتطرفة صاحبة الشرعية من خلال ممارستها الممنهجة للعنف المادي و المعنوي تحت غطاء التراخي السياسي الغريب. إن الحيف الممارس اليوم على :الإعلام و الفكر و كذلك المرأة ليس إلا وجها من وجوه الثورة المضادة و دعوة إلى إرادة الهيمنة تمهيدا الصنع دكتاتوريات جديدة و لن يتحقق إلا بتكميم الأفواه و كسر الأقلام و إرجاع المرأة إلى مراتب دُنيا... 3-المرأة أولى ضحايا الثورة المضادة المرأة أم الشهيد , المرأة الشهيدة, المرأة وقود الثورة والمرأة المناضلة التواقة إلى الأفضل. المرأة ثارت و اصطفت جدارا منيعا ضد الطاغية وصمدت و هي تتلقى الضربات من البوليس. المرأة قاست وقيست عليها لدهور نجاعة المشاريع الحداثوية فبقدر ما تكون المرأة متحررة و فاعلة بقدر ما يكون ذلك دليلاً على حداثة الدولة و مدنيتها و برهانًا على عدم التمييز الفعلي بين الجنسين. ولكن أي تحرر تريده المرأة هل ذاك التحرر الذي يمنح لها متى تشاء الأنظمة و يسحب منها متى تشاء أنظمة سياسية أخرى أم تريد تحررا ثابتا يؤسس للفعل الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي من باب الندية و المشاركة الفاعلة. إذ لا يجب التغافل اليوم عمّا تتعرض إليه المرأة من تنكيل ومصادرة لحرياتها الشخصية والفكرية من قبل أقليات منفلتة سواء في الشارع أو ما تتعرض له الأستاذات الجامعيات من شتم وسب وتعطيل لدورها العلمي و محاولة شل عزيمتهن و عرقلة دورهن الفاعل في تحقيق نهضة المجتمع. إن رمزية الشعار الذي رفعته الثورة تتوحد جميعا في إرادة التحرر من كل أشكال الدكتاتورية و قد هدر الشعب بها نساء ورجالا دون التمييز أو إقصاء نحو إرساء مسار ثوري شاركت فيه المرأة إلى جانب الرجل في كافة الاعتصامات و المسيرات ورفعت شعارات الاحتجاج ضد سياسة التهميش و التفقير التي مارسها النظام القديم ضد مكونات المجتمع. فمن أين جاء خطاب إقصاء المرأة اليوم ومن المسؤول عن جعلها كبش فداء يمكن أن يضحي بمكتسباتها و حريتها. إنّ السلوكيات الرجعية التي تتعرض لها المرأة اليوم في مختلف الفضاءات يكشف عن نشوء دكتاتوريات جديدة تريد تغييبها عن ساحة الفعل بشكل عام و تربك أداءها النضالي من جهة و تضرب من خلال استهدافها حداثة المجتمع و مدنيته مقابل السعي المحموم إلى ترويج نموذج معين للمرأة يراد تكريسه و الترويج له ضمن أفق ضيق و طرح خبيث يربك مسار الثورة وينكر جميل المرأة التي اصطفت إلى جانب الرجل سدا منيعا أمام الطغيان و الحيف. و يتجاهل تراكم نضالاتها و دورها الريادي في حركة التحرر و بناء الدولة الحديثة وصولا إلى مشاركتها الفاعلة اليوم في إرساء قواعد اللعبة الديمقراطية و تحقيق العدالة الاجتماعية ضمن اطر متعددة يتداخل فيها السياسي و النقابي والحقوقي و غيرها من الأطر الفكرية و الإبداعية التي ساهمت فيها المرأة مساهمة جدية. إن ضرب ثالوث: المرأة/الإعلام/الفكر هو محاولة اغتيال لأحلام الشعب بالحرية والكرامة ومحاولة هدم لكل مفاصل الخط المدني والحداثي وإرساء لثقافة التخريب و قوانين الهيمنة مقابل ثقافة التنوع و الاختلاف و المساواة.