ذكر جمال جمعة في جمع وتحقيق له ما يلي: تكشف المحاورات والاعتراضات التي وثقها القرآن على لسان المشركين عن حياة عقلية قوية وعن اطلاع واسع على أفكار الديانات الأخرى والميثولوجيا المتداولة آنذاك. وأورد فيه استشهادات كقول المعرّي: ولم تكن العرب في الجاهلية تقدم على هذه العظائم... بل كانت عقولهم تجنح الى رأي الحكماء وما سلف من كتب القدماء إذ كان أكثر الفلاسفة لا يقولون بنبي وينظرون الى من زعم ذلك بعين الغبي. فهل استمرت تلك العقلية المتنوعة ذات الاطلاع الواسع فيما بعد؟ استنادا الى القرآن فالسنّة، كانت قد توالدت عشرات الفرق الاسلامية التي كانت واحدة منها تكفر الأخرى وإن كان الامر بعيدا احيانا عن الغايات السياسية. والى حد نهاية الدولة العباسية وما تلاها بقليل كان الجدل والحوار والبرهان بحرية خير مما نراه اليوم بل ولا وجه للمقارنة فإذا كان لعلي بن طالب شروطه التي يرى فيها البعض مجحفة فإننا نود رجم غير المتحجبة اليوم. أما عن العاملات في المصانع ومختلف الادارات ليلا فحدّث ولا حرج. وقد كان عمر بن أبي ربيعة غزّالا بالنساء في طريق الحج وما تجرأ أحد على قتله وقد كان بعيدا عن السياسة وأشنع ما أتاه المسلمون به هو قولهم فيه: أيُّ خير رُفع وأيُّ شرّ وُضع مقارنة بين موت الخليفة عمر بن الخطاب وولادة عمر بن أبي ربيعة. والامثلة عديدة ولكم فيما كتب المعرّي خير شاهد. إن الحجاج حفيد واحد من أشهر الصحابة وأبوه مناصر لعبد الله بن الزبير وصلت به استنتاجاته الفكرية خدمة لمواقفه السياسية وهو خير من حفظ القرآن وعلّم الصبيان الى أن رمى الكعبة بالمنجنيق، وفاق ما أتاه الحجاج أبو طاهر سليمان بن الحسن الجنابي إذ نهب الكعبة واقتلع حجرها الأسود وقتل من في الطواف وطرحهم في بئر زمزم، ثم تغنى بذلك في أشعاره يدوّنها، وكانت لعبد الله الزعبري قصيدة شهيرة عن يوم أُحُد فَخْريّة وهجائية رددها يزيد بن معاوية اثر مقتل الحسين بن علي. وكان قد نصب الوليد بن يزيد بن عبد الملك القرآن ثم رماه بالنشاب. وعن جمال جمعة كتب أبو الفرج الاصبهاني: قال الرُقيق القيرواني: إن بعضهم قال لعبد العزيز بن عمر بن العزيز إن بنيك يشربون الخمرة. قال صِفُوهم لي. قالوا: فلان اذا شرب خرّق ثيابه وثيابَ نديمه، فقال: سوف يدع هذا شربها، قالوا: وفلان إذا شرب تقيأ في ثبابه وأفسدها، قال: وهذا سوف يدعها، قالوا: وأما آدم فإنه إذا شرب أسكر ما يكون لا ينال أحدا بسوء. قال: هذا لا يدعها أبدا. فكان كما قال. وكان الحلاج وابن الرواندي وأبو الطيب الطاهري وأبو الحسن الافريقي وأبوبكر بن الوليد البلخي... وكانت ولاّدة الأندلسية تهدي قبلة لشاهيها تكتبها نسيجا على ثوب صدرها. حركة فكرية متنوعة أسست للقريب والبعيد في خلافتي الأمويين والعباسيين، وكان التعامل معها بدفء كبير غير ان الأمر إذا وصل الى المساس بالسلطة السياسية يكون التنكيل شنيعا ليس للمحافظة على آنيتها فقط بل وربما الأهم على الاستمرارية في المستقبل البعيد والبعيد جدا خاصّةً ان الحكم عائليّ وقبليّ وراثيّ لذلك كان التنكيل فظيعا بابن الرواندي وابن شد... ولنبتعد تعسفا عن السياسة حتى القليل فقد كان من أهم المواضيع الفكرية هو الجدل في صفات الله أي وجودها من عدمها ارتباطا بجسد الانسان، ولعل ما يفاجئ القارئ هو وسع هذا المجال المحظور حاليا. إذا كان ابن تيمية قد شبّه هبوط الله الى موسى بنزوله من فوق المنبر، فإن داود الجواربي المبتعد زعما عن الاقرار بوجود صفات لله خاصة (منها...) يؤكد بأن لمعبوده جسم ولحم ودم... وأن له فروة سوداء وله شعر قِطط (الشهر ستاني عن غالب هلسا) وقد عفا نفسه عن الجزم بوجود... ولحية لله. ولعل انطلاقا من هذه الأسئلة ترى جاهليةُ الفكر المستديمة في عليّ بن الفضل الخنفريّ الذي أحلّ جميع المحرّمات والذي مدحه شاعر من عصره بخمرية ندر أن نجد لها مثيلا في الآداب العالمية من حيث المضمون أفضل من تشبيهات قدسية متصلة بجسد المرأة وكأننا بذلك في صراع بين القمر والشمس حسب أساطير الأولين. هي المرأة حامل للشرّ والشيطان والشهوة الجنسية التي لا تقاوم في آن واحد... إن الخلافتين الأموية والعباسية على وقع نقيض مع الخلاقة العثمانية، وإذا كانت الدولة العباسية ساهمت في رفع شأن الحضارة الانسانية ما اقتدرت بحكم علاقات الانتاج ووسائلها وبنيتهما الفوقية الناتجة عن ذلك فإن دولة العثمانيين وان بدت في نشوبها قوية فانها كانت تشير وبإذلال الى سقوط مجتمعاتها لتظل في نهاية التحليل خادمة لمجتمع جديد بوسائل وعلاقات انتاج جديدة جعلت من دوله سيدة للعالم لا من حيث السيادة السياسية فقط بل ومن حيث الاقتصاد والمعرفة أساسا. ولا عجب في ان المتمسكين بحضارة العثمانيين وتوجه الوهابيين يتشددون في المسك بقشور الرفض حتى ان سلفهم القديم لو علم أمرهم وما يأتونه لأنكر ذلك بشدة، وانفصل عنهم وحاربهم. أو ليس البيت الأبيض سيدا للعثمانية والوهابية؟ ومن يستطيع الإنكار؟