يشير الوضع في تونس ما بعد الثورة إلى حالات عنف ممنهج ضد النساء في الشارع والمدارس والجامعات وكذلك في أماكن العمل إن هذا الوضع يؤكد أن الضحية الأولى في المراحل الاستثنائية والانتقالية في تاريخ الشعوب التي عادة ما يصاحبها انفلاتا أمنيا يؤدي إلى تفاقم الجريمة والتعدي الصارخ على الحقوق والمواثيق..لذلك تتعالى صيحات المجتمع المدني من منظمات نسائية و حقوقية ونقابية داعية الى ضرورة ايجاد آليات للتصدي والحد من مظاهر العنف الذي لا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال. يحيل مفهوم العنف على معنى الإفراط في استعمال القوة في مقابل مفهوم الضعف الذي يشير الى معنى النقصان في القوة وعليه ارتبط العنف بمفهوم القوة التي لا تعي حدودها فتجعل من ذاتها وسيلة وغاية في نفس الوقت مما يترتب عنها أشكالا مختلفة من التجاوزات والمعاناة التي تستهدف الإنسان كقيمة سواء امرأة أو رجلا .أما العنف في دلالته الحقوقية يفيد «أي فعل عنيف قائم على أساس الجنس ينجم عنه أو يحتمل أن ينجم عنه أذى أو معاناة جسمية أو جسنية أو نفسية للمرأة،بما في ذلك التهديد باقتراف مثل هذا الفعل أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية،سواء أوقع ذلك في الحياة العامة أو الخاصة» الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة والذي وقعته الأممالمتحدة سنة 1993. وربط المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان والذي صدر عنه ما يعرف بإعلان برنامج عمل فينا 1993 بين العنف و التمييز ضد المرأة الفقرة 38 وقد جاء ما يلي «يشدد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان بصفة خاصة على أهمية العمل من أجل القضاء على العنف ضد المرأة في الحياة العامة و الخاصة و القضاء على جميع أشكال المضايقة الجنسية و الاستغلال و الاتجار بالمرأة و القضاء على التحيز القائم على الجنس في إقامة العدل وإزالة أي تضارب يمكن أن ينشأ بين حقوق المرأة والآثار الضارة لبعض الممارسات التقليدية أو المتصلة بالعادات والتعصب الثقافي و التطرف الديني» . . من هذا المنطلق تتحدد دلالة مفهوم العنف بما هو وحدة غير قابلة للتجزئة والتصنيف بين أشكاله لا ينفي تداخلها مثلا العنف ضد المرأة في أماكن العمل أي في دلالته الاقتصادية يرتبط بكل أشكال المعاناة التي يعيشها العمال وبوجه خاص النساء من تشيؤ على مستوى نفسي واستعباد على مستوى اجتماعي واستغلال على مستوى اقتصادي وهيمنة على مستوى سياسي نتيجة تحول دور الدولة من راعية للخدمات الاجتماعية ( الصحة ، التعليم ،والسكن... الى دولة ذات الدور المحدود المتمثل في حماية مصالح الطبقة المهيمنة داخل المجتمع وفي العالم...فتستهدف حقوق النساء ومنها «حق المرأة في التمتع على قدم المساواة مع الرجل ،بكل حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وفي حماية هده الحقوق و الحريات ودلك في الميادين السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية و المدنية...» و«الحق في شروط عمل منصفة» و«الحق في أن تكون في مأمن من التعذيب و المعاملة أو العقوبة القاسية أو غير الإنسانية أو المهنية» الإعلان العالمي بشأن القضاء على العنف ضد المرأة1993 المادة3 لكن ثمة تباعد بين ما تشرعه النصوص الشغلية المحلية والاتفاقيات و المواثيق الدولية في ميدان الشغل وما تعيشه المرأة التونسية من مظاهر للعنف في أماكن العمل التي تؤكد إن المساواة في القانون لم تقضي على مظاهر التمييز في الواقع : إذ تعصف البطالة بالنساء حتى أن ثلاثة أرباعهن لا تحتسبن من بين القوة العاملة للبلاد كما تؤكد الإحصائيات أن نسبة الفتيات الجامعيات تفوق نسبة الذكور غير أن نسبة العاطلات عن العمل من حاملي الشهائد الجامعية تفوق نسبة الذكور . لا تزال الأمية تنتشر في أوساط النساء و تفوق نسبتها لدى الرجال بكثير ، وهذا ما يفسر ارتفاع نسبة حضور المرأة في مواطن العمل الأكثر هشاشة و المهن متدنية المهارة و الأجر وتعرضها للتسريح ولعدم الاستقرار... لا تتمتع النساء بالمساواة في الأجر حيث يقل معدل الأجر العام للنساء بنسبة 14 بالمائة عن أجور الرجال وترتفع هذه النسبة إلى 18 بالمائة في القطاع الخاص حسب آخر الإحصائيات المتوفرة. كما تتعرض المرأة العاملة الى التمييز بسبب حالتها المدنية وخاصة الزواج و الحمل والرضاعة خاصة في القطاع الخاص: يعمل المشغل أثناء الانتداب على إخضاع المرأة المراد تشغيلها إلى فحوصات طبية لتبين أعراض الحمل. عدم تمكين المرأة العاملة من رخصة الأمومة أربعة عشر أسبوعا خالصة الأجر للراحة و الوضع والرضاعة إذ تتمتع في القطاع العام بشهرين فحسب أما في القطاع الخاص بشهر واحد فقط وتحرم المرأة العاملة من عطلة الأمومة إذا وضعت طفلا ميتا تتمتع فقط بعطلة مرضية والأدهى من ذلك يمكن حرمان الأم بعد انقضاء مدة الرخصة المحددة من استئناف العمل وطردها. انعدام شروط الصحة والسلامة المهنية وتعر ض العديد من النساء لمشاكل صحية متفاوتة الخطورة دون توفر الرعاية والتغطية الاجتماعية. يتجسد ذلك في الأشكال الهشة من التشغيل ومنها «المناولة» يقصد بالمناولة مؤسسات العمل الوقتي والتى تنص عليها مجلة الشغل في الفصول 28 و 29 و 30 و يتمحور دورها الأساسي في التوسط للتشغيل في نشاط معين كالتنظيف أو الحراسة كما تهدف إلى الجمع بين الباحثين عن الشغل والمؤجرين . ويمثل هذا الشكل من التشغيل خيارا فاشلا من اختيارات النظام البائد التي جعلت من العمال نساء ورجالا عبيدا في القرن الواحد والعشرين ،فهي أسلوب زيادة الاستغلال الأمثل لطاقات الإنتاج المتوفرة عبر عقود لا تحترم أبسط شروط الكرامة الإنسانية. فواقع هذه المؤسسات أصبح مقتصرا على الجانب التجاري من خلال ابرام العقود مع المؤسسة المشغلة دون احترام ابسط حقوق العملة على غرار التغطية الاجتماعية وتسوية الأجور و العطل.وهو ما تعبر عنه أحد المنظفات صليحة بالبلماريوم التي كانت منهكة في ركن من أركان الفضاء التجاري تمسح البلا ط الرخامي بمكنستها وبجانبها كامل أدوات العمل وتكلمت بلهجة حذرة ممزوجة بالخوف«عمل من السادسة صباحا إلى الساعة الواحدة بعد الزوال ولا أتمتع بالضمان الاجتماعي ولا يمكنني المطالبة بالترفيع في الأجر لأنني سوف أطرد على الفور من الشركة المشغلة لي».جريدة الشعب 30 أفريل 2011. لذلك تمثل الاتفاقية المشتركة بين الاتحاد العام التونسي للشغل ووزارة الشؤون الاجتماعية و الوزارة الأولى 22 أفريل 2011 حدا لمعاناة قرابة 36 ألفا من عمال المناولة بدمجهم في الإدارات العمومية و المنشآت و المؤسسات العمومية. لكن لم تستجب الاتفاقية سوى 2 بالمائة من المؤسسات العمومية مما يكشف عن نية الالتفاف علي الاتفاقية لمواصلة السمسرة باليد العاملة وخاصة منها النسائية. ويظل ملف المناولة عالقا بالنسبة إلى القطاع الخاص حيث ترتفع نسبة اليد العاملة النسائية و تتعرض النّساءإلى أشكال مختلفة من التعسف والاستغلال. فكم من صاحب شركة مناولة قد أعلن افلاس شركته حتى لا يضطر إلى ترسيم العملة ثم يعيد فتح شركة أخرى بنفس العمال وهكذا دواليك. كم من عاملة تعرضت للاعتداء و الهرسلة والتحرش الوقائع لا تحصى ولا تعد أصبحت مألوفة لفرط تكرارها في قطاع النسيج و الصحة والسياحة والفلاحة والخدمات ..... لذلك يظل ملف إلغاء المناولة مطلبا نقابيا يعمل الاتحاد العام التونسي للشغل على تحقيقه ليضع حدا لمعاناة آلاف العمال أكثر من 60 بالمائة نساء تراهن في محطات القطارات وفي المستشفيات و النزل وفي الفضاءات التجارية وعلى حافة الطريق و يقمن بخدمات متنوعة الحراسة و التنظيف دون أن يتمتعن بأدنى حقوق تضمن لهن العيش الكريم والحال أن الحكومة المؤقتة تؤكد أن «الغاء المناولة يأتي ضد المنطق» أمر لا يستقيم إلا إذا أعتبر أن تأبيد العبودية والاستغلال والسمسرة باليد العاملة هو المنطق الذي أتت به الثوره التونسية التي كان أغلب ثائريها من عمال المناولة وعاملاتها ومطلبها الكرامة الوطنية. مظهر ثان من العنف ضد المرأة داخل أماكن العمل وهو «التحرش الجنسي» : استغلال المشغل سلطته المهنية على المرأة العاملة ومساومتها وإخضاعها لإرادته. وتتعدد أشكاله الجسدية والإيمائية و الحركية واللفظية والهرسلة عبر استعمال التكنولوجيا الحديثة كالإرساليات والإيحاءات إلى جانب تعمد المشغل إلزام العاملة بالعمل خارج الأوقات المنصوص عليها أو تكليفها بأعمال تعرضها الى الخطر....وقد اتخذت الظاهرة اتجاها تصاعديا رغم أن القانون التونسي يجرمه الفصل 226. ولكن هذا القانون يعتبر في شكله الحالي ضبابيا وشديد العمومية ، فمثلا نحن نعرف أن جلّ حالات التحرش الجنسي تتم داخل مواقع العمل ولكن المشرّع لم يفرد هذه النقطة بالتوضيح، فالتحرش الجنسي في مواقع العمل يستعمل لإغراء الضحية مقابل بعض المكاسب أو هو سبيلٌ لتخويفها والضغط عليها بالتهديد بطردها في حالة عدم الرضوخ فالقانون لم يتوفر على آليات لحماية الطرف الضعيف (الضحية المرأة غاليا) . فالمؤجر الذي يتحرش بالعاملة قد يكون بمأمن من شهادة الشهود مثلا كوسيلة إثبات قد تلجأ إليها الضحية ، لأن الشهود في الغالب من زملاء العمل الذين يخشون سلطة المؤجر في طردهم وحرمانهم من العمل فالفصل 226 لم يتعرض للحماية القانونية للشهود ثم إن النساء ضحايا التحرش غالبا ما يلتزمن الصمت ولا يلتجئن للقضاء لأنهن يخشين صعوبة الاثبات. فالتحرش ممارسة تتم في الخفاء وهي في الغالب غير منظورة، لذلك على القانون أن يتعرض للدليل أو القرينة الذي يجب أن يكون سهلا من نوع أن يشهد بعض زملاء العمل أن المؤجر يتعمد إبقاء ضحيته للعمل بعد خروج زملائها أو أنه يطلب حضورها المستمر لمكتبه دون دواعي مهنية لذلك.وهو ما يتهدد حقوق المرأة منها الحق في العمل اللائق الذي يضمن كرامتها. ما الحل للحد من العنف ضد المرأة في أماكن العمل؟ كسر طوق الصمت و التعتيم والقطع مع اعتبار العنف يتعلق بحالات معزولة لاعتباره ظاهرة تستهدف كيان المرأة ووجودها.وهي مسألة تطرح على مستوى ذاتي في علاقة بالمرأة دانها ومستوى سياسي أن تتعامل الحكومة المؤقتة بجدية مع الظاهرة باعتبارها في علاقة بالمطالب الاجتماعية للثورة التي شهدت حضورا مكثفا للنساء العاملات في قطاعات متعددة و مختلفة. - دسترة الحق النقابي دون التضييق عليه وجعل دستور الجمهورية الثانية مفتوحا على حقوق الإنسان والمواثيق والاتفاقيات الدولية الضامنة للمساواة التامة والفعلية. -دعم وتعزيز تواجد المرأة في الهياكل النقابية الأساسية والوسطى و العليا. - تفعيل المؤسسة الإعلامية في اتجاه التشهير و إدانة العنف الذي يمارس ضد النساء بجميع أشكاله ومنها العنف الاقتصادي. - اتحاد إجراءات عاجلة لتعزيز وتبني تشريعات ملزمة غير متسامحة مع الجناة ومرتكبي العنف ضد النساء. - العمل على تحقيق تنمية عادلة بين الجهات إذ لا يمكن التصدي لمظاهر العنف ضد النساء في واقع التفاوت بين الجهات وطالما تعيش الأسر أزمات اقتصادية و أوضاع اجتماعية متردية فقر وبطالة و تهميش وتدهور في القدرة الشرائية. سهام بوستة كاتبة عامة نقابة أساسية تعليم ثانوي عضوة بالمكتب الوطني للمرأة العاملة