يتأسّس عنوان المقال على مركّب عطفي غير أنّ «الواو» الواردة فيه لها شأن مخصوص. فقد خصّها أهل البلاغة بمصطلح واو العلاقة ويمن ترجمتها في الأسئلة التّالية: ما العلاقة بين ؟ هل يجسّم الرّمز المقوّم الأساسي في ذاك الأدب؟ هل يعدّ الأدب الذهني أدبا رمزيّا؟ قبل طرق هذه الإشكاليات يجدر بنا حدّ المفاهيم. والعنوان- كما هو واضح- يستدعي الوقوف عند مفهومين: المفهوم الأوّل هو مفهوم الأدب الذهني ونظفر عند توفيق الحكيم بمحاولة لحدّه حين يقول تحت وطأة فشل عرض مسرحيّة أهل الكهف منذ سنة 1933: «..إنّي اليوم أقيم مسرحي داخل الذهن وأجعل الممثّلين أفكارا تتحرّك في المطلق من المعاني، مرتدية أثواب الرّموز»(1) ويضيف ملحّا على أنّ الأفكار قبل الأفعال في المسرح الذهني: «إنّي حقيقة ما زلتُ محتفظا بروح ال Coup de théâtre ولكنّ المفاجآت المسرحيّة لم تعد في الحادثة بقدر ما هي الفكرة.. لهذا اتّسعتْ الهوّة بيني وبين خشبة المسرح، ولم أجد [قنطرة] تنقل مثل هذه الأعمال إلى النّاس غير [المطبعة]»(2). ولا يختلف كثيرا شأن الرّواية الذهنيّة عن المسرحيّة الذهنيّة كما نظّر لها الحكيم. فهذا محمود أمين العالم يستعيد تقريبا نفس الموقف السّابق لمّا رام كشف خصائص المرحلة الذهنيّة عند نجيب محفوظ. يقول «إنّ روايات هذه المرحلة هي روايات كما يقال ذات أطروحة أو ذات قضيّة محدّدة تسعى لتأكيدها بمختلف الأحداث والشّخصيات والمواقف. ولهذا جاءت الأحداث والشّخصيات والمواقف رموزا وأقنعة للتّعبير عن هذه الأطروحة أو القضيّة. وجاء بناؤها خادما بشكل مباشر لهذه الأطروحة أو القضيّة»(3). توثّق التّعريفات السّابقة الصّلة بين . فشخوص المسرحيّة الذهنيّة إنّما هي أفكار مجرّدة «مرتدية أثواب الرّموز» على حدّ تعبير توفيق الحكيم. أمّا «الأحداث والشّخصيات والمواقف» فتستحيل في الرّواية الذهنيّة «رموزا وأقنعة» كما ذهب إلى ذلك أمين العالم. ومّا يوضذح أكثر تلك الصّلة البحث في الدّلالة الاصطلاحيّة لمفهوم الرّمز. يرى بعض الدّارسين أنّ كلمة رمز تطلق «على كلّ ما يتضمّن أو يوحي بمعنى غير معناه الظّاهر الواضح... كما هو الحال في اعتبار قطعة القماش الحمراء اللّون المعلّقة في آخر جرّار مثلا رمزا إلى الخطر: إنّ العلاقة بين اللّون الأحمر في هذا المثال والخطر هي علاقة مبرّرة وليستْ اعتباطيّة فاللّون الأحمر يستدعي إلى الذهن في الكثير صورة الدّم والدّم مقترن عادة بالخطر»(4). يثير هذا التّعريف إشكاليّة العلاقة بين الدال والمدلول ولا نطيل كثيرا في التذكير بالأجوبة المقدّمة لهذه الإشكاليّة ونختصرها في موقفين: الموقف الأوّل هو موقف دي سوسير De saussure عندما اعتبر أنّ العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطيّة يقول:»إنّ الرّابط بين الدّال والمدلول رابط اعتباطيّ أو بعبارة أخرى وبما أنّنا نعني بكلمة دليل المجموع النّاتج عن الجمع بين الدّال والمدلول يمكننا أن نقول بصورة أبسط: إنّ الدّليل اللّغوي اعتباطيّ»(5) فدال القلم مثلا أطلق اعتباطا على مدلول القلم (صورة القلم الذهنيّة) ولو أطلق على مدلول الورق خلال تسمية الأشياء لسرى الأمر دون إشكال. الموقف الثّاني ويمثّله بنفنيست فقد انطلق من موقف دي سوسير في المسألة ولكنّه انتهى إلى اعتبار علاقة الدال بالمدلول علاقة ضروريّة فمع الزمن نشأت علاقة وطيدة بين دال القلم ومدلوله بحيث يعسر كسر تلك الرّابطة. والموقفان يتكاملان في الحقيقة إذ تنشأ العلاقة بين الدوال والمدلولات اعتباطيّة ثمّ تتطوّر فتضحي ضروريّة. خذ لك مثلا تسمية مولود جديد حيث تتمّ بالتّوافق بين الأسرة النوويّة (الأب والأم ..) والأسرة الموسّعة (الجدّ، الجدّة، الأعمام، الأخوال..إلخ) ولكنّ ذاك الدال يترسّخ عرفيّا وقانونيّا ولا يفكّ الارتباط به إلاّ بمبّررات قويّة ومقنعة وبقضايا منشورة في المحاكم المختصّة. غير أنّ العلاقة بين الرّامز والمرموز إليه ليست ضروريّة فحسب بل هي منطقيّة فالدم السّائل دليل على خطر ماثل للعيان وهذا ما يبرّر دلالة الحمرة الرّمزيّة (الخطر..). ومن خصائص الرّمز- فضلا عن ذلك- طاقته التّجسيديّة. فهو قادر على تجسيد المجرّد وتقريبه من الأفهام وهذا ما انتهى إليه مجدي وهبة حين قال: «إنّ الرّمز كلّ شيء يحلّ محلّ آخر في الدّلالة عليه لا بطريقة المطابقة التامّة وإنّما بالإيحاء أو بوجود علاقة متعارف عليها. وعادة ما يكون الرّمز بهذا المعنى شيئا ملموسا يحلّ محلّ المجرّد..»(6) لا تخلو هذه الإشارة من أهميّة قصوى فهي توضّح فضل الرّمز على الأدب إذ يثريه بظلال الإيحاء ويخصبه بطاقاته التّجسيديّة. ويمكن البرهنة على ذلك استنادا إلى العلاقة الكائنة بين الشّخصيات لأنّها علاقة منشدّة إلى الدّلالات الرّمزيّة منغرسة فيها بلا هوادة. دليلنا على ذلك عملين أدبيين: العمل الأوّل هو مسرحيّة شهرزاد لتوفيق الحكيم وهي معدودة ضمن مسرحه الذهني ألّفها سنة 1934 وطرق فيها قضيّة مجرّدة مدارها الأسنى علاقة الإنسان بالمكان. ولا تتعدّى شخوصها الأساسيّة الأربعة: شهرزاد/ الملكة- شهريار/ الملك- قمر/ الوزير- العبد. لقد كانت شهرزاد «قطب الرّحى في المسرحيّة»(7) على حدّ تعبير جان طنّوسي وهي فضلا عن ذلك «نقيض الاغتراب والعلامة الكبرى على الحياة الحقيقيّة»(8) وهذا ما شكّل بينها وبين سائر الشخوص ضروبا من العلاقات الرّمزيّة فهي المرادف الدّلالي لكلّ الشّخوص. يقول شهرزاد في عبارة تكثّف دلالة شهرزاد الرّمزيّة وتستقصي مختلف أبعاده: «أنتِ أنا. أنتِ نحن. لا يوجد غيرنا نحن، أينما ذهبنا فليس غيرنا وغير ظلّنا وخيالنا الوجود كلّه هو نحن»(9). ويحيل ضمير «نحن» على شهريار وقمر والعبد في آن وتكون شهرزاد رمزيّا «مفردا في صيغة الجمع»(10) أي أنّها تستقطب مختلف الشّخوص وتختزلها في ذاتها. ولمّا كانت شهرزاد، تلك الأنثى الممتلئة بمعاني الأنوثة، إنّما هي الحياة الحقّ فإنّ رؤى الشّخصيات لها تجسّم رؤاهم للحياة وهي رؤى مختلفة حدّ التّناقض ومتباينة أشدّ التّباين إذ العبد لا يرى في شهرزاد إلاّ الجسد: «العبد (يتأمّلها) ما أجملك! ما أنتِ إلاّ جسد جميل- شهرزاد (باسمة) حتّى أنتَ أيضا تراني في مرآة نفسك»(11). إنّ تركيب الحصر الوارد في مخاطبة العبد يحصر شهرزاد حصرا لا هوادة فيه في بوتقة الجسد لأنّه لا يرى الوجود إلاّ من كوّة الغرائز الطّاغيّة فيه، يعيش في الحياة بغرائزه ومن أجل غرائزه فلا تنكشف له إلاّ المادّة ولذائذها ولا ينشدّ من جهته إلاّ للمتعة الماديّة. وتفقد هذه الرؤية مشروعيتها مع الوزير فهو لا يرى في شهرزاد إلاّ البعد العاطفي: «الوزير (بعد تفكير).. ما أنتِ إلاّ قلب كبير!- شهرزاد (باسمة) إنّك تراني في مرآة نفسك!»(12). فهو ينكر الجانب الغريزي ويطلّ على الوجود من كوّة القلب المكتضّ بالعواطف فتنعكس ذاته على الكائنات المحيطة به وتستحيل شهرزاد كتلة من العواطف موغلة في العذريّة والبراءة لذلك لن يقبل في آخر المسرحيّة حقيقة شهرزاد الحسيّة مجسّمة في علاقتها الجسديّة بالعبد لأنّه يرفض بمثاليته المتعالية المفارقة للواقع ابتذال قداسة المشاعر بدنس الغرائز!! ولن يرض شهريار مع شهرزاد لا بجسدها ولا بقلبها بل إنّه يظهر نقمة شديدة على البعدين كما يكشف ذلك أسلوب الدّعاء: «سحقا للجسد الجميل!- سحقا للقلب الكبير!»(13) فهو يدعو على الجسد ويدعو أيضا على القلب ويطرح بديلا هلاميّا ميتافيزيقيّا، إنّه يختزل شهرزاد في العقل: «شهريار.. ما أنتِ إلاّ عقل عظيم!- شهرزاد (باسمة) أنتَ يا شهريار تراني في مرآة نفسك»(14) ومرآة شهريار التي ينعكس فيها الوجود هي العقل، من كوّته يطلّ على الحياة ويلغي بذلك الغرائز والمشاعر ولا يعيش إلاّ بالعقل وللعقل.. على هذا النّحو تتّضح المرايا الرمزيّة الّتي تنعكس فيها شهرزاد/الحياة: مرآة العقل تستحيل فيها عقلا محضا ومرآة القلب تستحيل فيها قلبا خالصا ومرآة الجسد تستحيل فيها جسدا غضّا ولكّنها مرايا مقعّرة لا تجلو الحقيقة كما هي بل تشوّه الوجود الحقّ وتبخسه حقّه. فقوام الحياة مختلف الأبعاد الإنسانيّة ولا فكاك للعقل مهما سبح في المجرّدات من الغرائز والمشاعر بل يعسر استخلاص أيّ بعد من تلك الأبعاد الثّلاثة مجرّدا من البقيّة. ويمكن أنّ نكثّف هذه الدّلالات الرمزيّة في شبه معادلات رياضيّة كما يلي: العبد = الجسد- قمر = القلب- شهريار = العقل شهرزاد = العبد/الجسد + قمر/القلب + شهريار/العقل = الإنسان غير أنّنا نتبيّن شبكة أخرى من الدّلالات الرّمزيّة في علاقة كلّ من العبد وقمر بشهريار. فهذه الشّخصيات مثقلة بدلالتها التّراثيّة وهي تفد علينا من الخرافة القديمة «ألف ليلة وليلة» وقد بدأ الحكيم مسرحيّته من حيث انتهتْ تلك الخرافيّة. أي بدأها- حسابيّا- في اللّيلة الثانية بعد الألف ومتى جمعنا بين النصّ التّراثي والمسرحيّة الحديثة الّتي هي سليلته وإن تمرّدت عليه ألفينا شهريار قد مر بأطوار واضحة في صيرورته: الطّور الأوّل هو طور الهمجيّة وقد وصفه الجلاّد- أحد شخوص المسرحيّة- قائلا: «لقد فاجأ يوما امرأته الأولى بين ذراعيْ عبد خسيس فلم يزد على أن قتلها وقتله ثمّ أقسم أن تكون له في كلّ ليلة عذراء يستمتع بجسدها ما شاء ثمّ يذبحها في الصّباح»(15) الطّور الثّاني، وقد انتهى إليه في آخر «ألف ليلة وليلة» إذ ضمُر فيه صوت الهمجيّة وقبل بشهرزاد الرّاويّة زوجة وحبيبة. يقول قمر مخاطبا شهرزاد: «أليست قصص شهرزاد قد فعلت بهذا الهمجي ما فعلته كتب الأنبياء بالبشريّة الأولى»(16) وتختزل شهرزاد هذين الطّورين خلال مواجهتها لشهريار «أتنكر أنّك عشقتَ جسدي يوما، وأنّك أحببتني بقلبك يوما»(17) بقي الطّور الثّالث وهو طور العقل وهذا ما جسّدته مسيرة البطل الدراميّة في المسرحيّة. بناء عليه فإنّ العبد يجسّم رمزيّا الطّور الأوّل لشهريار (العبد = شهريار الجسد) ويجسّم الوزير الطّور الثّاني لشهريار (قمر = شهريار القلب) أمّا شهريار بعد التحوّل فيجسّم الطّور الثّالث لشهريار (شهريار = شهريار العقل). إنّ هذه الشّبكة الثّانيّة من الدّلالات الرّمزيّة الّتي ترتّبت عن علاقة قمر والعبد بالملك شهريار لا تلغي تلك الشّبكة الأولى الرّاصدة لعلاقة شهرزاد بسائر الشّخوص وهذا ما قرّره جورج طرابيشي بصريح العبارة حين قال: «...إنّ العبد والوزير قمر وشهريار ليسوا إلاّ وجوها ثلاثة لإنسان واحد أو مراحل ثلاثا من تطوّر لإنسان واحد»(18) لأنّ الرّمز الخصب يولّد علاقات مركّبة ويبيح تأويلات منفتحة. وربّما وجدنا شبكة ثالثة من الدّلالات الرّمزيّة نصوغها في قالب إشكاليّ: ألا يحاكي تطوّر شهريار من الهمجيّة إلى العاطفيّة إلى العقلانيّة تطوّر الحضارة الإنسانيّة من البدائيّة الموحشة إلى روحانيات الأساطير والأديان إلى عقلانيّة الفلسفة والعلم حتّى استقرّت أخيرا حضارة جوهرها العلم بكلّ ثقله العقلاني؟ قد تجد هذه القراءة منبتا لها في شهرزاد الحكيم غير أنّها تبدو وثيقة الصّلة بشحّاذ نجيب محفوظ لأنّ طرح إشكاليّة العلاقة بين العلم والفنّ جليّ واضح. وليس هذا مطلبنا الآن فمشغلنا الرّئيس كما هو معلن شبكة العلاقات الرمزيّة بين الشّخصيات. العمل الثّاني، إذن، هو رواية الشحّاذ لنجيب محفوظ ألّفها سنة 1965 وتتنزّل في صميم المرحلة الذهنيّة ولا يخفي صاحب الرّواية تعويله على الرّمز بل كان مقصدا تقصّده وهدفا استهدفه لمّا انخرط في الرّواية الذهنيّة. يقول: «لم تعد البيئة هنا ولا الأشخاص ولا الأحداث مطلوبة لذاتها. الشّخصيّة صارت أقرب إلى الرّمز أو إلى النّموذج، والبيئة لم تعد تعرض بتفاصيلها، بل صارت أشبه بالدّيكور الحديث، والأحداث يعتمد في اختيارها على بلورة الأفكار الرّئيسيّة»(19). إنّ شخصيّة البطل الفرد المتفرّد في الشحّاذ مكتنزة الدلالة ومتشعّبة الأبعاد لذلك فإنّها تحتاج- شأنها شأن شهرزاد الحكيم- إلى مرايا متعدّدة حتّى تنكشف فيها صورتها كاملة. وهذا ما انتبه إليه نجيب محفوظ ونبّه إليه غالي شكري تنبيه إشادة وتنويه فرأى أنّه من الوسائل الجديدة الّتي أضحى يعوّل عليها محفوظ هي التّعبير «عن الجوانب الخفيّة في نفس البطل بتجسيدها في شخصيات منفصلة عن كيان البطل»(20). ونحن نظفر في بداية الرواية بتعريف شامل للبطل. يقول الطّبيب حامد صبري مخاطبا عمر الحمزاوي: «كنتَ تظهر لنا بأكثر من وجه، الاشتراكي المتطرّف، المحامي الكبير، ولكن وجها منك رسخ في ذاكرتي أقوى من أيّ سواه، هو عمر الشّاعر»(21). وهذه الوجوه الثّلاثة هي الّتي تجليها الشّخصيات الثّانويّة الفاعلة في الرّواية: أوّلا، المناضل الاشتراكي وقد عبّر عنه عثمان خليل الّذي كان مستبدّا بعالم البطل الباطني كما يكشف عن ذلك الحوار الباطني في مناسبات عديدة، فهو ماض يؤرّقه «وقريبا سيخرج الماضي من السّجن فيتضاعف عذاب الوجود»(22) ولم يقصد عمر بالماضي السّجين سوى عثمان خليل السّجين. وهو مستقبل قريب يزعجه «قلب العالم رأسا على عقب انتهى في السّجن وسوف يخرج يوما ما بعد بضعة أعوام وسوف تتلاقى الأعين في دهشة مزعجة»(23). ويؤكّد الحوار المباشر هذه العلاقة الرّمزيّة. يقول عثمان خليل مخاطبا البطل «ولكنّنا نصفان متكاملان»(24). يجسّد على هذا النّحو عثمان خليل ماضي عمر الحمزاوي الثّوري وقد كان البطل يجهد في الخلاص منه وفي نفيه من ذاته. ثانيا، المحامي الكبير، عبّرت عنه زينب حيث كان يصفها البطل وصف نفور منها وتبرّم بها قائلا: «وأنتَ تمرض في التّرف وتنهض الزوجة رمزا للمطبخ والبنك»(25) وقد كشف البطل في تلذذ فزع زينب من التّأميم خلال حوار ثنائيّ: «العمارات ستؤمّم- اصفرّ وجه زينب وحدّثتني بنظرة استغاثة فقلت لها: لدينا من المال الشيء الكثير- فتساءلت: وهل تنجو الأموال»(26) لقد رمزت زينب بجلاء إلى البعد البرجوازي في البطل إلى «مستنقع آسن مكتظّ بالحكم التّقليديّة والتّدبير المنزلي»(27) غرق فيه عمر ويجهد في الخلاص من بلا هوادة. ثالثا، عمر الشّاعر عبّر عنه مصطفى، فقد كشف الثّنائي في بعض المواضع من المتن الروائي عن تكامل بين عمر ومصطفى. يقول مصطفى: «كنتَ تقاوم حبّه (الفنّ) الكامن فيك وتهجره بقسوة ومنتُ أنا وجها من وجوهه جدير بإثارة الشّجون» ويجيب عمر «ولكنّي لم أكرهك، وجدتك فقط ضميرا معذبا»(28) ويرى مصطفى فضلا عن ذلك أنّ نبذه للفنّ قد أراح عمر وهذا دليل على تبعيّة مصطفى الرّمزيّة للبطل. يقول: «ولعلّي أرحتك كثيرا عندما قرّرتُ نبذ الفنّ بقوّة مذهلة، وها أنا أبيع اللبّ والفشار»(29). وتعيد بثينة سيرة والدها كما أقرّ بذلك عمر نفسه في سؤال احتجاجيّ «لماذا نضطرب إذا كرّر الأبناء سيرتنا»(30) لذلك لم يملك عمر بعد جدال طويل بينه وبينها وبينه وبين نفسه إلاّ أن يسلم لها مملكة الشّعر على أن تقحم في تلك المملكة العلوم الحديثة فخاطبها في رجاء «بثينة، هل أطمع بأن تعديني بألاّ تفرّطي في دراستك العلميّة؟»(31) ثمّ إنّه يشجّعها على الجمع بين الشّعر والهندسة. يقول: «ليكن، لن أجادلك في ذلك، ويمكن أن تكوني شاعرة وفي ذات الوقت مهندسة مثلا»(32). يشكّل زينب ومصطفى (مع بثينة) وعثمان وجوها مختلفة لشخصيّة البطل، رموزا متعدّدة لأبعاد البطل: البعد البرجوازي، البعد الفنّي والبعد الثّوري. كانت العلاقات بين الشّخصيات سبيلنا في البرهنة على عمق العلاقة بين دون أن نزعم أنّ الأدب الذهني أدب رمزيّ ففي المسألة نظر خاصّة وأنّ المدرسة الرّمزيّة في الفنّ تأسّست على رفض الواقعيّة. فالواقع كما يراه الرمزيون: «لا يقتصر على الماديّ بل يتخطّاه ويمتدّ إلى الشّعور والتّأمّل الباطني كي يتحرّر من عوائقه الماديّة ويبلغ دلالته السّاميّة وقيمه الروحانيّة الواقعة خلف الظّواهر»(33). ونحن لا نجد أدلّة قاطعة على رفض الواقع فيما تعاملنا معه من الأدب الذهني ولعلّ شهرزاد الحكيم أوغلتْ نسبيّا في التّجريد وفي التّعالي على المعطى الموضوعي عندما انسانا مهشّما متشظّيا أمّات شحّاذ نجيب محفوظ فتبدو مثقلة بهموم الواقع لأنّ محفوظ وإن تجاوز المرحلة الواقعيّة مع نهاية الثّلاثيّة فإنّه لم يبرأ من شواغل الواقع الموضوعي. وغاية ما يمكن تقريره هو أنّ الأدب الذهني يستلهم تقنيات الرمزيّة ويجسّم التحوّل من الاستعارة إلى الرّمز. هوامش 1- مقدّمة مسرحيّة بقماليون، الدّار التّونسيّة للنّشر- تونس 1978 ص6 2- المرجع نفسه الصّفحة نفسها 3- تأمّلات في عالم نجيب محفوظ- الهيئة المصريّة العامّة للتّأليف والنّشر القاهرة 1970 ص95 4- مجلّة عالم الفكر، أكتوبر- نوفمبر- ديسمبر 1985 ص4 5- دروس في الألسنيّة العامّة تعريب صالح القرمادي ومحمّد الشّاوش ومحمّد عجينة، الدّار العربيّة للكتاب 1985 صص111/112 6- معجم مصطلحات الأدب، مكتبة لبنان- بيروت 1974 ص552 7- انظر كتاب النّصوص لتلاميذ السّنة الرّابعة من التّعليم الثّانوي آداب ج2 ص247 8- المرجع نفسه الصّفحة نفسها 9- شهرزاد- دار الكتاب اللّبناني، بيروت ط1 سنة 1973 صص 156/157 10- العبارة في الأصل عنوان إحدى مجموعات أدونيس الشّعريّة 11- شهرزاد ص108 12- المرجع نفسه ص51 13- المرجع نفسه ص60 14- المرجع نفسه ص 71 15- المرجع نفسه ص21 16- المرجع نفسه ص 45 17- المرجع نفسه ص60 18- لعبة الحلم والواقع، دراسة في أدب الحكيم 1972 ص68 19- انظر غالي شكري، المنتمي منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت ط3 سنة 1982 ص361 20- المرجع نفسه ص269 21- الشحّاذ، طبعة دار مصر، ص13 22- المرجع نفسه ص23 23- المرجع نفسه ص 101 24- المرجع نفسه ص133 25- المرجع نفسه ص 18 26- المرجع نفسه ص27 27- المرجع نفسه ص90 28- المرجع نفسه ص 20 29- المرجع نفسه الصّفحة نفسها 30- المرجع نفسه ص 35 31- المرجع نفسه ص 41 32- المرجع نفسه الصّفحة نفسها 33- انظر الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، المدارس والمذاهب والاتّجاهات والتيّارات، معهد الإنماء العربي ط1 سنة 1988 ص634