يعتبر الصيف في بلادنا موسما للمّ الشمل والافراح بعد سنة من الكدّ والبذل والتحصيل والغربة هذا الصيف لم يختلف عن سابقيه حيث انتظم في كل حارة مهرجان وفي كل منطقة هرج وضجيج ملأ الدنيا ولم يشغل أحدا... خاصة بعد ان توكأ مديرو هذه المهرجانات على جلد عنز ونافخها لجني أموال لا يعلم احد سوى الله اين تذهب وفيم توظف على غرار احد المهرجانات الدولية والذي تعاقد مديره على ما يبدو مدى الحياة مع مزاودي تونسي وآخر روسي لا غنى عنهما حتى لو ملئت الدنيا بالف فيروس ووردة ووديع الصافي ونجاة الصغيرة وعظماء كركلا ومجاهدي ناس الغيوان... هذا المدير وهذا المزاودي موجودان بكثرة في انحاء البلد وهو امر مزر ولكن في المقابل أطل علينا أمر مفرح وهو رفض العامة لهذا النوع من هابط الفن تماما كما امثاله من هذه «الاوركسترات» التي لا فرق بينها وبين مستعملي جلود الماعز من حيث المستوى الابداعي والفني وهما (المزود والاوركستر) في الحصول على بطاقات احتراف تخول لهما ان يعيثا في الارض بلادة وسوقية في إطار هو العربدة والضحك على الذقون. العامة بالصوت العالي: لا رغم الانتصار الساحق الذي حققه المزود على مديري المهرجانات فإن هذا الرهط الفني الدخيل علينا والمتفرّخ في موسيقى السجون والجنائز في بريطانيا تشرشل وما قبله رغم ذلك فان العامة وفي كل المناطق التي زرناها على امتداد اكثر من شهر اصطفت في موقف واحد وهو الرفض لهذه الفرق مزودية كانت ام وترية ونجومها التي ثبتت وتثبت عليهم تهمة الادعاء بالباطل بكونهم فنانين محترفين وايضا الاعتداء على الاخلاق العامة والذوق العام بترويج بذاءات ومبتذلات يرقص على انغامها السكارى ومحترفو التنكيد والافساد لافراح لا يعلم الا الله ما تكبده اصحابها لاقامتها... نعم البديل في ظلّ هذا الوباء الذي استشرى طوال السنوات الماضية تحركت العامة لايجاد البديل ولم تتعب كثيرا في سبيل ذلك الا ومر العود الى العمق الشعبي والتراث الجميل والالوان الاصيلة في عديد المناطق من الوطن على غرار ولايات الساحل والقيروانوصفاقس ونابل واحواز العاصمة الجنوبية اي ما يعادل نصف سكان البلاد!! مضافا اليها الجنوب بطبعه المحافظ واشكالياته الرائعة ببساطتها واسألوا اهل تامزرط (قابس) ان كنتم لا تعلمون!! وكان ان عمت الوان الفرح الشعبي ذو العمق التاريخي بكل تجلياته العقائدية والشمائلية حيث امتعت صوفيات وروحانيات حزب زرمدين وعوامرية سيدي عامر وحفرة دار شعبان الفهري وشيوخ الطريقة من القادرية الى الشاذلية الى المدينة الى السلامية التي هي على التوالي نسبة الى فارس بغداد عبد القادر الجيلاني وابي الحسن الشاذلي والشيخ المداني وعبد السلام الاسمر وكلهم من السلف العالم قلت امتعت وتمتع وتفيد حيث لاحظنا في جمال وزرمدين مثلا كيف ان الصبية كما الكهول كما النساء يحفظون كل الاوراد عل غرار ورد في مدح الرسول «صلّوا على الهادي صلوا عليه شوقا عزى وانشادي المصطفى حقا وغاية مرادي من حوضه نسقي يوم يكون الناس في شدّة العرقى» وعلى ذكر زرمدين التي تحولنا اليها خصيصا لمعاينة هذا اللون يجدر القول اننا فوجئنا بان لا فرح يمكن ان يقام طالما لم تتوفر فرصة من الحزْب وهي النقطة التي اثرناها مع السيد البشير البريقي رئيس فرقة من جملة 7 فرق موجودة بالمدينة فاكد لنا بانه فعلا اذا لم يستطع احد تحديد موعد مع الحزب فإنه مضطر لتأجيل المناسبة سنة اخرى او بضعة اشهر على الاقل... وقد كانت الفرصة مواتية لنسأل السيد البريقي عن هذا النمط الموسيقي فأفادنا بأن اصوله تعود الى يوم سقوط غرناطة وما عرفته ايام سلوك الطوائف من انهيار للمنظومة الاسلامية حيث تعدد البكائيات واتخذت منحى زهديا صوفيا خاصة بعد تشرد المسلمين في أصقاع شتى منها بلاد المغرب حيث استقر الوافدون في المغرب الاقصى في عهد الدولة الموحدية التي يحكمها يوسف ابن تاشفين ويضيف السيد البريقي وعلى اثر تلك النكبة ساد موقف لدى العامة من الحكام فانخرط الناس في مظاهر وردّات فعل مختلفة كالانزواء والزهد فظهرت عدة شخصيات تشجع كل ذلك من بينهم الشيخ امحمّد بن عيسى (مصدر تسمية العيساوية) الذي اشتهر بكرامات قرّبت المريدين منه مما تكون معه في كل منطقة نواة (زاوية) لتعاطي انشطة باطنها مواقف وظاهرها فنون لعل ابرزها النّظم الشعري الذي تناول بعد توحيد الله ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم شخصية سيدي امحمد بن عيسى اصيل مكناس في المغرب وهو ما يفسر المقطع (ساكن مكناس... باب اِمحمد.. داوي وليدك ما فيها باس)... هذا النمط انتقل الى بلادنا ايام البايات وانتشر المالوف في الشمال الغربي (تستور) وكذا اذكار الطريقة العيساوية التي كانت تتدارس في الزّوي (جمع زاوية) اسبوعيا مما ادى الى مزيد الاستقطاب الذي ارق المستعمر بداية مما جعله يحتويها ويوظفها للتغطية على طغيانه وقلقه ولصرف الانظار عن ممارساته وبعد هذا الجرد التاريخي سألنا السيد البريقي عن المادة التي يقدمونها اليوم فافادنا بانها تتمحور حول ذكر الله وتوحيده ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر شمائل شيخ الطريقة اِمحمد بن عيسى في ظل ايقاعات جميلة من البطايحي الى المصدر الى الختم وألحان اجمل على مقامات السيكا والنوى والراست وراست الذيل والمزموم وغيرها... وقبل مغادرة زرمدين حدثنا الناس عن طقوس الحزب وطرائفه حيث يستهل العرض بالمجرّد «ناس المقام.. جيناكم زيار.. لا تردونا خايبين» وهو عبارة عن مقطع تسخيني للحناجر وتعبوي للاجوار كل ذلك في اطار الانضباط والويل كل الويل لمن تسول له نفسه اشعال سيجارة او يأتي مخمورا أو تطأ قدماه المدار بنعليه فهو عرضة لشراسة المتخمرين الذين مهما اتوا من ردات فعل على المتجاوزين لا يطالهم القانون ولا مسؤولية جزائية عليهم خاصة عند عزف المزموم الذي يتأثر به الجميع عدا فاسد المزاج الذي ليس له علاج. القاقية والرصاص بعد زرمدين تحولنا الى عمق آخر حدودي بين ولايات سيدي بوزيدوصفاقس والمهدية.. هناك وقع القطع نهائيا مع الراقصة والطبال وهذه الفرق الوترية المارقة والاستقاضة عنها بالاديب والشاعر او ما يسمى «بالغناية» و»لباردية» اي اللاعبين بالبارود والنار وللحديث عن هذا الشكل الفني ذهبنا الى السواسي (200 كم جنوب غرب العاصمة) لنحضر احدى السهرات ونلتقي الشاعر الاديب البشير الحاج عمار الذي اكد لنا ان الشعر تحول فعلا الى شكل تعبيري من البهجة والفرح حيث تتلاقح الكلمة مع اللحن في رجع صدى لذاك الزمن الجميل ايام الصالحي المثلوثي (اسماعيل الحطاب) والقسيم الرائع (محمد الصغير ساسي). المحطات التسع السيد البشير الحاج عمار حدّثنا باسهاب عن هذا الفن الذي كما الحزب اصبح سائدا نختصر عناصره في الآتي: المكزه (ذكر ديني) البرق (قصائد للفلاحة والطبيعة) بر لوحة (قصيد للتغني بالجهات والمواقع) النجع (حكايات الرّحل) ضحضاح (تحدي اهوال الطبيعة الصحاري والزواحف و....) الغزل، الفخر، الأحرش (الهجاء) والرباط (أي اللغز). كل ذلك على وقع البارود والعاب من خلال فرق مختصة على غرار أهالي منطقة شيبة بجهة الساحل وهو ما يحدث للشاعر شبه تخميرة تفتح له ابواب ارتجال الكلمة واللحن في آن. ومما ارتجله شاعرنا في ذات سهرة نْصب اِمحمد أمر شيخ الادْبة شاعر سلاحه يفوت سانتنيان (بندقية) ارض السواسي ذهبْ موشي تربة ومنها نطق الشعر جابْ اعلام البشير جاب القسيم وكتْبه محل شاهد لغز للفهّام وككل الفنون فان للاديب او الغناية شروطا وضوابط لعل اهمها الحنجرة المعبرة والحفظ الجيد والحضور الركحي الذي بلاه لا قيمه للمعروض. ولعلّ اطرف ما في الغناية هو مسألة الرباط اي اللغز الذي يطرحه اديب على أديب من ذلك مثلا يقول السيد بشير ان احد نظرائه ظلمه نلْعجْ عليه بلغز أبكمه: اذا كانك عارف قاري وبفرايضك قايمْ قدّاش ثمْ من آية في نون والقلمْ وقداش حروف المدّ والشد والضمايمْ والجار والمجرور ولم وما جزمْ وزيد حتّى ورب وليْس الجوازم في البقرة وطه وستين بالتْممْ علما ان هذه الفرق تتكون من ثلاثة عناصر (الاديب + 2 سعفة) اي مساعدين او مرّددين وأعلب الاعراس تحييها فرقتان على الاقل لاضفاء طابع التنافس والحل والربط. وعن المناطق الأكثر اقبالا على هذا اللون يقول السيد بشير انها ولاية صفاقس ومدينة جمّال والاحواز الجنوبية للعاصمة مقابل اجرة متراوحة بين 200 و300 دينار. الجواد والجمل : محفل من المظاهر التي لم تظلّ طريق العودة الى الرّكح المجتمعي عند المناسبات نجد العودة القوية للجياد للركوب بالنسبة لحفلات الختان وللسباقات والالعاب في حفلات الزفاف اما العائد الاجمل فهو الجمل بعودة (الجحفة) والتي بدأت في الزحف نحو الاطاحة بالبي آم والمرسيدس والجوار وقد شاهدنا ذلك في منطقة سيدي زيد على الطريق الرّابطة بين القيروانوصفاقس على هذه الطريق توقفت الحركة بالكامل فسحا في المجال للمحفل على انغام مقطوعات «الجحافى» المؤثرة وفي مشهد تؤثثه الخيمة (بيت الشعر) التي بدأ توريدها من الجنوب الغربي (قبلي) وترويجها باسعار معقولة. آخره وفي المحصلة يمكن القول ان هذا العود الى اشيائنا الجميلة يعتبر الخطوة في اتجاه القطع مع الابتذال والوقاحة وقلة الحياء التي كثيرا ما حولت افراح الناس الى اتراح.