إن الملاحظ لمسيرة العمل النقابي بتونس منذ نشأته يقف على حقيقة انها مسيرة حُبْلى بالنضالات والتضحيات رغم العراقيل والتحديات، وحافلة بالعطاء والفعل والحراك بما يشكّل إرثا نضاليا يحقّ للعمال عموما وللنقابيين خصوصا الاعتزاز به. فمنذ ظهورالتجمعات العمالية الاولى (جامعة عموم العملة التونسيين الاولى ثم الثانية + جامعة الموظفين + اتحاد النقابات المستقلة بالجنوب وبالشمال) بزعامة محمد علي الحامي خصوصا، والتي ساهمت في تحسيس العمال وتأطيرهم فقد عرفت الحركة النقابية بتونس تطورا ملحوظا باندماج كل هذه التشكيلات في اطار نقابيّ واحد: الاتحاد العام التونسي للشغل الذي عقد مؤتمره التأسيسي يوم 20 جانفي 1946 بزعامة الشهيد فرحات حشاد ليدافع عن مصالح منخرطيه ثم يستكمل بناءه ليدخل بقوّة في الصراع الاجتماعي وينخرط مع قيام الكفاح المسلح بداية 1952 في تصعيد نضالاته السياسية الوطنية بالاضرابات والمظاهرات، مما أدّى الى اغتيال كاتبه العام يوم 5 ديسمبر 1952. ولا تعتبر مسيرة الاتحاد بعد الاستقلال سهلة او أقل صعوبة، فالدولة عرفت فيها احداثا سياسية واقتصادية مهمة محليا ودوليا جعلت علاقتها بالاتحاد تتسم في حقيقتها بالصراع والازمات: فمن ازمة 1965 ورفع الحصانة عن الحبيب عاشور وسجنه وخروج احمد التليلي الى المنفى الى اضراب 26 جانفي 1978 وسجن القيادة الشرعية وتنصيب قيادة ثانية «المنصبين» الى أزمة 1985 والاستيلاء على الاتحاد وممتلكاته وتنصيب ما يعرف ب «الشرفاء». وغيرها وغيرها من التوجهات الرسمية للسلطة في خياراتها المحكومة بمحاولات التهميش والاحتواء والتراجع والاقصاء. فإن الاتحاد العام التونسي للشغل تمكّن من تنظيم الاغلبية الساحقة من العمال بالفكر والساعد المتقاعدين منهم والشغالين الذين يمثلون القوة الحقيقية للشعب ونجح في جمعهم وتوحيد صفوفهم بشكل قلّ ان نجد له نظيرا في البلاد او خارجها، ليس فقط لانه يهدف الى النهوض بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية او الارتقاء بوعيهم او الدفاع عن مصالحهم المادية والمعنوية اي الاكتفاء بالمطالب الحرفية المهنية الضيقة بل يتعداها الى الدفاع عن الحريات العامة والفردية بترسيخ مناخات الديمقراطة واحترام حقوق الانسان ومعالجة قضايا المواطن الجوهرية الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية والثقافية اي طرح مشروع حضاري متكامل يرمي الى بناء دولة قانون ومؤسسات وعدالة ومجتمع حرّ سيّد ومتضامن، تتكامل فيه العلاقة بين التنمية البشرية والنموّ الاقتصادي ويتعاضد فيه كل المواطنين دون استثناء او اقصاء لبناء عزّة بلدنا وكرامة شعبنا «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون». وها نحن نعبر اليوم الى سنة 2008 وهي سنة تكتسي اهمية بالغة سياسيا باعتبارها سنة الاعداد والاستعداد لانتخابات 2009 واجتماعيا باعتبارها سنة انطلاق المفاوضات الاجتماعية التي تنتظم كل ثلاث سنوات بين الاطراف المعنية، وينتظر الشغالون نتائجها وانعكاساتها المباشرة على اوضاعهم وعلى اقتصاد بلادهم باهتمام كبير. وندرك جميعا اننا نقف في مطلع هذه السنة وسط اوضاع اقتصادية واجتماعية سريعة متسارعة وقاسية لا ترحم متّسمة بزحف تيار العولمة وشراكة تونس مع الاتحاد الاوروبي عبر ادماج اقتصاديات البلاد في منظومة الاقتصاد العالمي بأذرعه الثلاثة (صندوق النقد الدولي البنك العالمي منظمة التجارة العالمية) وما سينتج عن ذلك من مخاطر تجعلنا نعي جيدا عواقبها ونعي اكثر جسامة مسؤولية الاتحاد للعب دوره في صياغة القرار والتصدي لتحديات كثيرة اهمها: 1 استفادة الدول الكبرى والشركات متعددة الجنسيات على حساب المؤسسة المحلية 2 انتشار البطالة وتنامي ظاهرة الهجرة السرية وتفشي الظواهر المرضية كالسطو والعنف والادمان مما يهدد القيم والمعايير الاجتماعية. 3 تدهور القدرة الشرائية للمواطن نتيجة للاسعار الملتهبة والزيادات الدورية الزهيدة في الاجور والتي لا تراعي المتطلبات الجديدة لسلّة المواطن كالخدمات الاتصالية والصحية والتعليمية والثقافية والترفيهية، نتيجة تخلّي الدولة عن دورها التعديلي في عديد المجالات. 4 تراجع حجم الانتاج المحلي من النفط وارتفاع اسعاره في الاسواق العالمية وتقلّص تحويلات المهاجرين من العملة الصعبة وبحكم الالغاء النهائي للاداء الجمركي مع مطلع هذه السنة فقد اضحت الجباية المورد الرئيسي والاساسي لتمويل ميزانية الدولة مما جعل العبْء يشتدّ بصفة غيرعادلة على كاهل الفئات العاملة او الفئات الوسطى والضعيفة. 5 اتساع الفوارق الاجتماعية بين فئات تمكّن منها اليأس وأخرى تتمتّع بحوافز وإعفاءات جبائية بشكل يشجّع وبطرق غير معلنة احيانا على التهرب الجبائي. 6 الشراكة والاندماج والانفتاح وبروز عناوين قديمة متجددة بملامح عودة الحماية في ثوبها الجديد لتوجيه سياسات البلدان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واجبارها على خصخصة القطاع العام لفائدة رأس المال الاجنبي. 7 فشل المنظومة التربوية التي شهدت في السنوات الاخيرة انهيارا يصعب اخفاؤه على المستويات المختلفة، وعجزها عن مواصلة مطلب التعريب. وأمام هذه التحديات فإن المنظمة النقابية انطلاقا من حسّها بجسامة الحمل والمهام تؤكد ضرورة مجابهة الانعكاسات الناتجة عن اقتصاد السوق وتحرير التجارة عملا بمقولة القاعدة الصحية «الوقاية خير من العلاج» بتحمّل كل طرف مسؤوليته للقيام بالاجراءات العملية الكفيلة بالحفاظ على التوازن الاجتماعي وحماية الطبقة العاملة من خطر التفقير وتأكيد الدور التعديلي للدولة في مجال تقاسم ثمرات النّمق بين الجهات والفئات كافة، وبمواصلة الحوار الاجتماعي الحقيقي لتعزيز الحريات النقابية والمساهمة الفعالة في مسيرة البلاد بأبعادها كافة.