صدر بالعدد 318 المؤرخ في أوت 2005 بسلسلة: «عالم المعرفة» التي يشرف عليها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت كتاب بعنوان: «الفجوة الرقميّة» للدكتور نبيل علي والدكتورة نادية حجازي. ويمكن القول منذ البداية ان الكاتبين وضعا الإصبع في هذا المؤلف القيّم والذي كانت تفتقر إليه المكتبة العربية على أهم الإشكاليات المرتبطة بموضوع الدراسة وهو الموضوع الذي تصديا له بجهد منهجي وبعمق فكري.. نادرين نسبيا في هذه الأيام. وقد وقف الكاتبان بالخصوص على أن تكنولوجيا المعلومات تنحاز اقتصاديا في وضعها الحالي إلى مصلحة الأقوياء على حساب الضعفاء، وبيّنا أنّه ليس في نيّة الشركات العالمية العملاقة المنتجة للحزم التكنولوجية إنتاج نسخ منها على مقاس الفئات المتعددة من مستخدميها في الدول النامية والفقيرة رغم أنّ ذلك ممكن ومتيسر. بل انّ الشركات متعدّدة الجنسيات حسب ما انتهيا إليه أصبحت تلتهم بصورة منظمة الأسواق المحلية كافة التي لم يعد بإمكانها ملاحقة التطويرات المتلاحقة والتي تزداد تعقيدا خاصة مع تنامي ظاهرة الصناديق السوداء التي تعمل على إبقاء السر التكنولوجي حكرا على أصحاب الامتياز وعلى من يملكون مفاتيحه وذلك بدفنه بإحكام داخل العتاد الإلكتروني المبيع. وهكذا يتحوّل المستخدمون لتكنولوجيا المعلومات والاتصال الى مجرد جماعات تنقر الفأرة لا غير، فتزداد الفجوة الرقميّة توسعا بين الدول النامية والدول المتقدمة لتكشف في نهاية الأمر عن فجوة زمنية حقيقية لا يمكن سدها بسهولة... ومن خلال تشريعات الملكية الفكرية وهي تشريعات تتناسى عن قصد أنّ أجيال البشر جميعا ساهمت في صنع التقدم المعرفي والتكنولوجي ووضعت بصورة مشتركة لبناته واحدة بعد أخرى يتضاعف كما لاحظ ذلك الكاتبان نطاق الحماية والاحتكار لفائدة الأقوياء على حساب الضعفاء. ما يزيد الأوضاع تعقيدا بعد هذا هو أنّ الحكومات بالدول النامية تسيطر أمنيا وبإحكام مزعج على الوضع المعلوماتي في الأقطار التي تسوسها، وذلك بوضع يدها على منافذ المعلومات ثم بدفاعها المستميت على إيجاد سيطرة مركزية على هذه المعلومات من قبلها. ومن المؤسف حسب الكاتبين انّ هذا الأمر الأخير قد غاب تماما أو وقع تغييبه عن قصد أثناء القمة العالمية لمجتمع المعلومات المنعقدة في دورتها الأولى بجينيف في ديسمبر 2003 وذلك لأنّ وفود الحكومات تعاونت على عدم التطرق الى هذا المعطى المهم رغم تأثيره البين على تحقيق الأهداف المعلنة التي اجتمعوا بغاية تحقيقها 1 . وإذ تُكافح جمعيات «المجتمع المدني» من أجل أن تبقى المعرفة متاحة للجميع فإنّ صدى مجهوداتها يبقى بهذه الصورة ضعيفا سواء. أمام تحول الإنترنت الى «ضيعة أمريكية خاصة» عبر منظومة «إيكان» ICANN (تجمع إنترنت المهني للأسماء والأرقام المعينة)، وهي منظومة لا يعرف سرّها الاّ أصحابها من الأمريكيين؟ أو أمام استبداد الحكومات المحلية في عديد البلدان التي تساعد بذلك على تحقيق أهداف الأقوياء في هذا المجال، وممّا يزيد الوضع تفاقما أنّ حماية الملكية الفكرية التي تسهر عليها المنظمات الدولية من طراز منظمة التجارة العالمية ومنظمة حماية الملكية الفكرية (WIPO)، والواقعة كلّها تحت سيطرة الدول الكبرى لا تهتم الاّ بحماية الملكية الفنية والفكرية الفردية دون الجماعية وهو ما يجعل تراث الشعوب بصفته ملكية فكرية جماعية نهبا مشاعا وعرضة للاستغلال التجاري الجشع، هذا الاستغلال التجاري الذي كثيرا ما يعمد إلى تشويه هذا التراث وحتى إلى ابتذاله. وهنا يذكر المؤلفان انّ التراث الفرعوني مثلا قد وقع ابتذاله بصورة فجة وذلك باتخاذه ديكورا لأحد كازينوهات القمار بمدينة «لاس فيغاس» الأمريكية. أمّا عند تخصيص الحديث من قبل الكاتبين عن عموم الوطن العربي فقد لاحظا أنّ العرب في زحفهم نحو مجتمع المعرفة لازالوا علاوة عن تأثرهم بكل ما سبق ذكره يحملون أغلالا ثقيلة من الأمية إذ يجرون خلفهم سبعين مليون أمي (70000000)؟ بالمعنى التقليدي للأمية أغلبهم من النساء، كما ان نوازع الجمود المجتمعي تتدخل بحدة لتزيد الأوضاع تأزّما لديهم لأنه هذه النوازع تقع ترجمتها عمليا إلى جهود تهدف إلى إعادة انتاج المجتمع بتقاليده وأنماط علاقاته السابقة بناء على فهم مغلوط في أحيان كثيرة للدين، رغم أنّ التراث الديني يمكن أن يكون بمفهوم متجدّد درعا واقيا للقيم الإنسانية النبيلة ضد تفشّي النزعات المادية العولمية، بل يمكن لهذا التراث وبهذه الصورة الأخيرة أن يكون حافزا أكيدا للإلهام ولشحذ الهمم. فكل هذا يوفّر عند النهاية بيئة مضيافة ومهيأة في كامل أنحاء الوطن العربي يصول فيها الفساد ويجول. وهنا لابد من الانتباه حسب المؤلّفيْن إلى أنّ التصدّي لسد الفجوة الرقمية لا يمكن أن يتمّ: دون الإنكباب على معالجة فجوات الفقر المتعدّدة: ألا وهي فجوة الدخل والغذاء والمأوى والرعاية الصحية والشغل والبنى الأساسية. ودون معالجة الفجوة التنظيمية والتشريعية. ودون معالجة الفجوة العلمية والتكنولوجية. ولكن سد الفجوة الرقميّة بالذات باعتبارها في المحصلة الأخيرة فجوة الفجوات يمكن دائما حسب المؤلفين أن يساعد لو بدأنا بذلك على معالجة الفجوات السابقة كافة، دون أن يكون من شأن ذلك إرغام الشعوب في الدول النامية ومنها الشعب العربي على الرضوخ لما يسمى بالحتمية التكنولوجية التي يقع تقديمها حسب مزاعم الأقوياء على أنّها حتمية لا تصد ولا ترد، اذ لابد من الوعي هنا بأنّ هذه الحتمية التكنولوجية المزعومة تأتي في صيغتها العولمية مصحوبة بحتمية اقتصادية مزعومة هي الأخرى متمثلة حسب ما لاحظه المؤلفان وعن صواب تام في ذلك النموذج الاقتصادي الأوحد المقترح أو المفروض في الحقيقة، لعلاج جميع مشاكل البلدن النامية، ألا وهو النموذج الذي لا يعرف من صنوف الدواء الاقتصادي غير ليبرالية المشاريع الواجب تجسيمها حسب أسياد العالم: في الخصخصة المطلقة والاندماج التام في الأسواق العالمية وإلغاء جميع أشكال الدعم الموجودة لحماية الصناعات الوطنية. وفي تقليص دور الحكومات وإفساح المجال واسعا أمام غزو الشركات متعدّدة الجنسيات للبلدان كافة وخاصة تلك البلدان التي ضعفت مناعتها ووقع الاستيلاء على عقول نخبها وتطويعها بجميع الطرق خدمة لمصالح غريبة تماما عن مصالح أوطانها. فمن خلال كل ما سبق بسطه يتضّح لنا إذن أنّنا أمام كتاب فريد من نوعه في المكتبة العربية، ما يجب التنويه به: عسى أن يقرأه كل عربي وكل عربية بكل ما يليق به من الانتباه، (وهو ما نتمناه رغم استفحال أزمة القراءة بكامل أرجاء الوطن العربي حتى أصبحت هذه الأزمة وصمة عار لنا في الإحصائيات العالمية) 2 وعسى أن يستفيد الشباب من طاقة الخير المخزّنة داخل صفحاته فيتمثلونها ويجعلون منها طاقة أخرى تنضاف إلى طاقاتهم الخاصة على درب بناء أسس جديدة للنهضة العربية المتعثّرة. ------------------------------------------------------------------------ هوامش: : كتبت هذه المقالة في غضون شهر أوت 2005. أمّا الكتاب فيمكن الحصول عليه من سلسلة: «عالم المعرفة»، التي يجب التنويه بالمشرفين عليها كونهم يقدمون للقرّاء كتبا قيمة وبأسعار شعبية وزهيدة في عصر تعاظمت فيه الضغوط التجارية لجعل الوصول الى الكتاب أمرا مستحيلا أحيانا كثيرة. 1 : من المعلوم هنا أنّ الدورة الثانية لمؤتمر المعلومات قد انعقدت بتونس. 2 تشير الأرقام هنا إلى أنّ الفرد العربي يقرأ: «ربع كتاب» فقط سنويا في حين أنّ المعدل العالمي هو أربعة كتب لكل فرد، ولاشك في أنّ هذا المعدل العام العالمي قد تأثر بتدنّي معدل القراءة في الوطن العربي، ومازلنا في غرورنا نسمي أنفسنا: «أمّة اقرأ» في حين أنّنا وبكامل البساطة لم نعد.. نقرأ.