«البلطجة» تعبر عن سلوك غير سويّ، فهي استخدام القوة في غير موضعها للترهيب والتهديد، والحصول على حقوق الآخرين في غياب القانون وعدم تفعيله. والقوة تكون مادية ومعنوية ومستمدة من نفوذ الآخرين. وهي بالتالي عمل غير شرعي، ومن أهم نتائجه إقرار شريعة الغاب، وتسييد مبدأ البقاء للأقوى بالقوة المهلكة أو الناعمة درءا لحالة الفشل التي يعيشها «البلطجي» سواء على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو الإبداعي. «البلطجة» هي الانتهازية بشكل إجرامي، ولئن ارتبطت تاريخيا بأصحاب المطاوي والعصي من مفتولي العضلات، فإنها لم تعد تقتصر عليهم وإنما صارت تشمل اليوم أصحاب الشهائد والمتعلمين والمثقفين والسياسيين وطبعا أصحاب رؤوس الأموال، أولئك الذين يرفعون شعار «بلطج تعيش...» ما يعنيني ضمن هذه المساحة هو «البلطجة» الإبداعية، تلك التي يأتيها بعض «المثقفين» أو تحديدا عدد لا بأس به من العاملين في الحقل الثقافي في تونس، ذلك أن هذه الظاهرة المَرَضيَّة طبعا استفحلت بشكل خطير، خاصة في هذه السنة، سنة الاحتفال بالثقافة وبالمثقفين من أمثال أبو القاسم الشابي وعلي الدوعاجي والهادي الجويني... فبدأت الأوراق تتساقط واحدة اثر الأخرى وتناهت إلينا أسماء الساطين والمسطو عليهم لتتصدر الصفحات الأولى للصحف ويأخذ بعضها طريق المحاكم... ولن أغالي إن قلت بأن هذه السنة هي سنة «البلطجة» الإبداعية بامتياز... وعديدة هي الأسماء التي تعانقت في دائرة «البلطجة» أذكر من بينها ما كشفه فرج شوشان عن كتاب «الموسيقى العربية بالأندلس أشكالها، تأثيراتها في أوروبا» لمحمد الكحلاوي وما حصل بين الكاتبين حسونة المصباحي وإبراهيم الدرغوثي بخصوص قصة قصيرة وما أثير حول كتاب أحمد بن صالح بين عبد الجليل التميمي وعبد الرحمان عبيد وما أثارته قضية حاتم القيزاني ووحيدة البلطاجي بخصوص مشروع «الصباح الجديد» في افتتاح الدورة 45 لمهرجان قرطاج الدولي ثم بين وحيدة البلطاجي مرة ثانية والهادي حبوبة بخصوص عرض البساط الأحمر وبين ورثة عبد العزيز بالحاج طيب والهادي حبوبة وزياد غرسة والقضية الجديدة بخصوص أغنية «وادي الباي» لمجموعة البحث الموسيقي التي أصدرتها هذه الأيام علياء بالعيد وقبلها أمينة فاخت وبلقاسم بوقنة... وما خفي كان أعظم... إن «البلطجة» الإبداعية نتاج طبيعي لإحساس الساطي بالعجز المطبق وبنضوب في ينابيعه الإبداعية ممّا يجره إلى التجاوز على جهود غيره والاستحواذ عليها من دون وجه حق أو إبداع، وهي تبدأ من السطو على جملة تائهة من فم شاعر تائه في شارع أو حانة لتصل إلى السطو على كتاب بأكمله أو فكرة مسرحية أو فيلم أو أغنية أو مقال صحفي أو لوحة فنية أو مجسم معماري... ورغم أن هذه الظاهرة ليست مستحدثة، وإنما ظاهرة قديمة، ولئن اجتهد الناقد الروسي باختين في تبريرها بإطلاق اسم «التناص» عليها، وقبله قال أبو حيان التوحيدي في «البصائر والذخائر»:»إن الخواطر تتلاقى وتتواصل كثيرا والعبارة تتشابه دائما...» كما أشار ابن رشيق في كتابه «العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده» إلى أن «المعاني أبدا تتردد وتتولد والكلام يفتح بعضه بعضا» إلا أن الظاهرة ظلت عاهة مستديمة في جسد الأدب والثقافة عموما، ولم تساهم إلا في تفريخ المتطفلين والمتمعّشين من الفعل الثقافي، سواء معنويا من خلال الشهرة أو ماديا بكسب مئات الملايين... مسألة «البلطجة» الإبداعية تبدو مسألة أخلاقية في ظاهرها إلا أنها بالأساس مسالة حقوق، ذلك أن سرقة إبداعية تعني سلب المبدع طاقته وجهده الإبداعي لكي يتحول من منتج إلى مطالب بحقه المسلوب، هذا إن تجرأ وطالب به في خضم سعيه المحموم لكسب لقمة عيشه وتثبيت اسمه في الساحة الثقافية، كما أنها تعكس أحد أجل مظاهر هشاشة وضع المبدع في بلادنا رغم وجود غطاء قانوني (قانون 94) ومؤسسة يُفترض بها قانونيا التدخل الفوري من أجل حماية حقوق التأليف المعنوية والمادية، إلا اننا لم نشهد تفعيلا جديا للنص القانوني ولا جدية في تدخل هذه المؤسسة لحماية المبدع والقانون في حد ذاته، بل انه طالما عمدت أطراف متداخلة منها وزارة الإشراف (قضية الأمين النهدي والمنصف ذويب) على لملمة الملفات حفاظا على الوجاهة والحظوة التي اكتسبها بعضهم في أروقة المؤسسات وهو ما يترك باب «البلطجة» الإبداعية مشرعا على مصراعيه لتنامي هذه الظاهرة . افتخر الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد بأنَّه لا يسرق الأشعار فقال:»ولا أغيرُ على الأشعارِ أسْرِقُها عنها غَنِيتُ وشرُّ الناسِ من سَرَقا».