يرصد هذا المقال فشل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا في مستوياتها العليا في التفاعل مع الآفاق الكبيرة التي فتحت مؤخرا في انتداب الخبرات التونسية من الجامعيين في الجامعات السعودية خاصة وذلك في ضوء قرار وزير التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا برفض إلحاق عدد كبير من الجامعيين كانوا قد تحصّلوا على عقود من الجامعات السعودية للسنة الدراسية 2009 2010. صدر هذا القرار بعد حوالي شهرين من الانتظار تغافلت فيها مصالح الوزارة عن الردّ عن مطالب الإلحاق وهي تعلم أنّ هذا الرد تتعلّق به اجراءات مهمة وشاقة تهمّ عائلات الجامعيّين المعنيّين وأبنائهم الذين لا ذنب لهم في هذا الأمر. كما تتعلّق به أيضا العودة المدرسية وسير الدروس في الجامعات المنتدبة. وقد دفع هذا التأخير وضغط الجامعات السعودية ومتطلبات الحجز عدد من الجامعيّين لإتمام إجراءات التأشيرة والحصول على التذاكر ثمّ فوجؤوا برفض مطالبهم من الوزارة دون مراعاة لكل هذه العوامل. (حدثت نفس اللخبطة للعائلات التونسية المعنيّة بنتائج مناظرة 2009 للدخول لمدارس المهندسين التي تأخّر الإعلان عن نتائجها كثيرا دون مراعاة لبرامج هذه العائلات من قبل مصالح الوزارة المعنيّة). يحدث هذا وذاك في مخالفة صريحة للأوامر والقوانين المنظمة لعلاقة المواطن بالإدارة وإلتزام الإدارة بالردّ في أجل الواحد والعشرين يوما المعروف. وهذه ليست المخالفة الوحيدة للوزارة التي تتعلّق ببديهيات العمل الإداري كما سنبيّنه في هذا المقال. فبالعودة الى موضوع التعاون الفنّي عموما وحتى بعيدا عن قرار الوزارة الأخير، فالملاحظ هو غياب مرونة التفاعل مع مستجدّات الطلب الكبير على الخبرات التونسية في مجال التدريس والبحث الجامعيين، بل انّ مصالح الوزارة تعرقل أحيانا الاستجابة لهذا الطلب ضاربة عرض الحائط بمصالح مواطنين تونسيين وبتوصيات الهيئات الدستوريّة والتشريعيّة العليا في البلاد حيث يُعتبر التعاون الفنّي خيارا استراتيجيا في علاقات تونس مع البلدان الشقيقة والصديقة: «إنّ اهتمام تونس بتطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية مع محيطها المباشر وتعزيزها، يدعمه سعيها الى استكشاف فرص التعاون مع البلدان الشقيقة والصديقة في مختلف أنحاء العالم»( من خطاب رئيس الجمهورية قرطاج في 7 نوفمبر 1998). لا تقوم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا بتوضيح أسباب قراراتها لمنظوريها ولا يحق لهم المطالبة بالأسباب التي أدّت الى رفض مطالبهم ولا تستشير أيّة هياكل لها شرعيّة تمثيل الجامعيين، لذلك يصعب تحديد أسباب قراراتها، فترى موظفي الوزارة ورؤساء المصالح يتجنّبون لقاء أصحاب المطالب من الجامعيّين الذين يملؤون أروقة الوزارة تهرّبا من أسئلتهم المحيّرة (وهذا سيكون موضوعا لمقال آخر يؤكد الضعف والفشل اللذين ينخران جسم الوزارة). غير أنّه و مهما تكن الأسباب التي أدّت الى رفض مصالح الوزارة لمطالب الجامعيين بالإلحاق فإنّ قرار رفض الإلحاق بالجامعات الخليجية لعدد كبير من الجامعيين شابه الكثير من أوجه الخلل حسب رأينا، نبيّنها فيما يلي: أوّلا: يجب أن يكون الشرط الوحيد لقبول أو رفض إلحاق الجامعيين هو حاجة المؤسسّة التي يعملون بها إلى خدماتهم. وهذا يحدّده طبيعيّا مدير المؤسسة أو العميد، بعد استشارة المجلس العلمي، فإذا وافق و عميد المؤسسة على الإلحاق فإنّ أيا من الشروط الأخرى التي تضعها رئاسة الجامعة أو مصالح الوزارة تُعتبر شروطا تعجيزيّة، الغرض منها لن يكون الاّ تصفية حسابات ضيّقة أو تضارب مصالح بين إداريّين بيروقراطيّين يكون ضحيّته الذين يتوقون للتعاون الفنّي لسبب لا يخفى على أحد، ألا وهو تدهور حالتهم المادية والمعيشية. ثانيا: يمكن اعتبار تعطيل إلحاق الجامعيين بالوكالة التونسية للتعاون الفني للعمل بالجامعات الخليجية دون سبب اضرارا بمصالح مواطنين تونسيين، وبالمصالح الوطنية التي تنجم عنه ( التعاون الفنّي) من جلب للعملة الصعبة،و من مساهمة في تمويل الصناديق الاجتماعية، ومن استثمارات وخلق مواطن شغل اضافية، و تعريف بالإطارات التونسية ودعم ارتباط الجامعات الخليجية ومؤسسات أخرى بنظيراتها التونسية وفتح آفاق لتعاون مستقبلي وغير ذلك. ويعتبر ما أقدمت عليه زارة التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا من رفض غير مُقنع لإلحاق الجامعيين مخالفة صريحة لأوامر رئيس الجمهورية «بمزيد توظيف الآليات المتوفرة والإمكانيات المتاحة لتكثيف هذا النمط من التعاون الفني على الصعيدين الثنائي ومتعدّد الأطراف بما يتيح توسيع آفاق انتداب الخبرات التونسية في عديد المجالات ويسهم في توطيد إشعاع البلاد. إذ تولي تونس أهمية خاصة للتعاون الفني بوصفه من المجالات الحيويّة التي تساهم في دعم التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة فضلا عمّا تتيحه من فرص لتعزيز حضور الكفاءات التونسية بالخارج ودعم روابط الأخوّة والصداقة مع سائر البلدان « (انظر موقع أخبار تونس 2008/09/02). ثالثا: يبدو أنّ من اتّخذ قرار رفض إلحاق الجامعيّين استكان دون تفكير عميق الى شرط الأقدميّة والخبرة العلميّة لطالبي الإلحاق وهو لعمري خطأ فادح. فإذا كان هذا الشرط يتماشى طبيعيا مع قطاعات أخرى كالممرّضين والمحاسبين فإنّه لا يتماشى مع الجامعيين الذين يتمّ انتدابهم من قبل الجامعات الأجنبيّة غالبا لإنتاجهم العلمي ولندرة اختصاصاتهم الدقيقة في البحث التي تفتقدها عادة الجامعة العارضة لعقود الانتداب. ومن الناحية الاجتماعية وما أظن انّ مصالح الوزارة تهتمّ لذلك فإنّه من الأفضل أن يتمّ إلحاق الجامعيّين الشبّان وذوي الأسر الحديثة التكوين الذين غالبا ما يعودون قبل أن يلتحق أبناؤهم بالمدارس هناك ويجنبوهم مناهج تعليميّة أخرى أقل ما يقال فيها أنّها لا تتماشى مع مناهجنا وخيارات التعليم في بلادنا. رابعا: إذا لم تعد الوزارة النظر في قرارها بعدم إلحاق الجامعيّين لهذه السنة فإنّ هذا سيكون ضربا لمصداقيّة المتعاونين التونسيّين وإضعافا لرصيد الوكالة التونسية للتعاون الفني ذات الصمعة الطيّبة والحاصلة هذه السنة على اعتراف دوليّ بكفاءتها تمثّل بتمديد صلوحيّة شهادة الجودة لسنوات 2009 2010. خامسا: بعيدا عن كلّ هذا، لا تقوم مصالح الوزارة بأيّة مجهودات لدفع التعاون الفنّي مع الجامعات الخليجيّة. فليس هناك تعريف للجامعيين التونسيين بمناهج التعليم في الجامعات الخليجية ولا يتمّ إدراج اللغة الأنليزية في تدريس العلوم ولو على سبيل التجريب ولا يوجد كتاب واحد في مكتبات الجامعة يتحدّث عن نظم التدريس في الخليج وليس هناك تفكير في الاستفادة من المتعاقدين السابقين في تهيئة المترشّحين للإنتداب برغم أنّ الوزارة تحتوي على إدارةللتعاون الدولي وهي لا تهتم بهذا الموضوع، بالرغم من أبعاده التنموية والاجتماعية والسياسية الواضحة. وفي الختام فإنّ فتح ملف التعاون الفني في أوساط الجامعيين أصبح ضرورة ملحّة تحتاج الى تظافر مجهودات الوزارة وممثلي الجامعيين وهياكل التعاون الفنّي والدولي ليقول كل منهم كلمته لصياغة قانون يحدّد تحديدا دقيقا مسؤوليّة كل طرف بعيدا عن الشخصنة واضطراب القرارات.