اجتمع المجلس الأعلى للتنمية يوم الاربعاء 25 نوفمبر الماضي برئاسة الوزير الأول السيد محمد الغنوشي. كما حضر أشغال المجلس الاخ محمد السحيمي الامين العام المساعد للاتحاد ممثلا عن المنظمة الشغيلة، وبهذه المناسبة ألقى كلمة في الدورة التي قال أنها تأتي في سياق أزمة مالية عارمة هزت ولا تزال أوصال أعتى الاقتصاديات وأكثرها مناعة. ورغم أن توقعات مختلف الهيئات الدولية المختصة تتفق حول بروز انتعاشة تدريجية للنشاط الاقتصادي العالمي في غضون السنوات القريبة القادمة فإن هذا التفاؤل يبقى في اعتقاد الكثير رهين الجهود والإجراءات التي ستتخذها المجموعة الدولية وسيتخذها كل بلد لتوفير مقومات المناعة والصمود والانتعاش. وسوف أحاول في هذه الكلمة الوجيزة أن أشير إلى البعض منها من خلال استقراء الانجازات والتقديرات الواردة في التقرير السنوي حول التنمية لسنة 2009، الذي عرض علينا في إطار التقييم نصف المرحلي للمخطط الحادي عشر ذلك لأن المسألة تتعلق، أولا وبالذات، بتقييم مدى تقدمنا في توفير مقومات المناعة والصمود أمام ما قد ينجر عن هذه الأزمة من تداعيات. وأضاف ان المحاور الاساسية التي تعرض لها التقرير المقدم الى المجلس قد ترجمت الجهود التي تبذل من أجل تطويق الأزمة والاستجابة إلى استحقاقات التنمية في بلادنا بالنسبة للمرحلة القادمة وهي جهود أدت إلى نتائج مشجعة تذكر فتشكر . ولأننا نجتمع اليوم لتقييم نتائج ما بذل من جهود وما سجل من نتائج فانه لا مناص أيضا من الإشارة إلى بعض أوجه الخلل التي لا تزال تسم مقاربتنا لموضوع التنمية، والتي لم نعد وحدنا في الاتحاد من يصارح بها، بل حكومات العديد من البلدان المتقدمة والنامية والكثير من الهيئات الدولية التي انتهت إلى نفس المآخذ بشان انحرافات العولمة، وبشأن الانعكاسات السلبية لسياسات الاندماج في الاقتصاد العالمي. والحقيقة أننا لا نخفي ابتهاجنا في الاتحاد العام التونسي للشغل ونحن نعاين إرهاصات المتغيرات التي يشهدها النظام المالي والاقتصادي العالمي. فنحن نبتهج ونستمتع للدعوات المنبعثة، من هنا وهناك، لإقامة نظام عالمي جديد أكثر عقلانية وعدلا . إننا لا نبتهج ولا نستمتع لإخفاقات الليبرالية المتطرفة فقط ولا لانكشاف عورة العولمة المتوحشة وحدها ولا لزيف وعود مريدي أصولية السوق فحسب. إننا لا نبتهج ولا نستمتع لهذه الإساءة فقط، فما كنا يوما من الشامتين، بل نبتهج ونستمتع لان الأحداث أثبتت، وفي زمن قياسي، صواب تحاليلنا وصدق توقعاتنا ومشروعية هواجسنا وتخوفاتنا، نبتهج لان ما حدث سيتيح للإنسانية، إذا أحسنت التدبير، تلافي الأسوأ وإعادة الآمل لشعوب العالم في مستقبل أكثر أمنا وأكثر استقرارا. مراجعة عديد الاختيارات إن الرد على الأزمة المالية العالمية لا يجب ان يقتصر على المدى العاجل والظرفي ويهمل الآجل والاستراتيجي. فهذا الرد ينبغي في نظرنا ان يندرج في إطار خطة تنموية شاملة وطويلة المدى، ردا يجمع بين الإجراءات المالية والاقتصادية والاجتماعية وهو ما يفترض مراجعات جدية لنمط التنمية الحالي الذي لا يزال يعاني من عديد القضايا الهيكلية المزمنة، وهي مراجعات لا زلنا ننتظرها ونترجاها. وربّ ضارة نافعة، فهذه الأزمة، بالرغم من سلبياتها، يمكن استغلالها للوقوف على أخطاء الماضي ولإعادة النظر في عديد الاختيارات المغلوطة وخاصة تلك التي وقع اعتمادها انطلاقا من الفكر النيوليبرالي الموسوم بالتعصب لمعتقدات وهمية أصبحت محلّ انتقاد من عديد الجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى في أوساط الليبراليين أنفسهم التي أصبحت تنادي بضرورة إعادة النظر في عديد المسلمات والممارسات والاختيارات التي اعتمدت ولا تزال في إطار ما يسمى ببرامج الإصلاح الهيكلي. إن التاريخ الحديث الحافل بالأزمات الرأسمالية منذ القرن التاسع عشر يؤكد لنا أن اعتماد إجراءات متكاملة ومتعددة الأبعاد لمقاومة الأزمة، مع تجنب سياسات الإغراق، هو أمر ممكن وضروري بشرط الاعتماد على تشخيص مشترك وموضوعي وعلمي للازمة المالية من جهة وفهم صحيح للتجارب الماضية وللدروس التي يمكن استخلاصها مما يتخذ من حولنا من مبادرات رائدة من جهة أخرى. وفي اعتقادنا فإن متطلبات التفعيل الضروري للإجراءات الاجتماعية وتطوير الإنفاق الاجتماعي بصفة مستمرة ومندرجة في منظومات دائمة يمكن اختزالها فيما يلي: - مزيد تمتين النسيج الاقتصادي مع مزيد الحرص على تنويع الأنشطة ورفع القيمة المضافة ودفع نسق الإنتاجية باستغلال المهارات والتحكم في التقنيات المتطورة. - السعي إلى تحقيق التكامل المنشود بين القطاع العمومي والقطاع الخاص في إطار علاقات تعاقدية قائمة على الشفافية والمتابعة والمراقبة والمساءلة. - تدعيم الطلب الداخلي وجعله يلعب الدور الأساسي بالرفع من نسق النمو وذلك عبر التوزيع العادل للثروة وتدعيم وتوسيع الحماية الاجتماعية لكل الأجراء. وقال الاخ محمد السحيمي ان ما يمكن ملاحظته في مجال سياسة التشغيل المحور الثاني من التقرير، وبالرغم من كل الجهود التي تبذلها الحكومة في هذا الباب، وبقطع النظر عن النتائج المسجلة، فان منوال التنمية في بلادنا لا زال بعيدا كل البعد عن مواكبة تطور هيكلة طلبات الشغل الإضافية. فهذه الهيكلة أصبحت تتميز بارتفاع نسبة حاملي الشهادات العليا وأصحاب المهارات في حين لا يزال منوال التنمية لدينا يقوم على استغلال الميزات التفاضلية القارة وبعث الأنشطة الاقتصادية الموسومة في اغلبها بمواطن الشغل التي لا تتطلب مستوى عالي من التعليم ولا مهارات عالية وتتقاضى أجورا ضعيفة. علاوة على ذلك لا بد من الإشارة إلى ما بلغته بعض انتدابات الدولة خاصة في قطاع التعليم وجل برامج التنمية من حالة إشباع حال دون استيعابها للطلبات الإضافية الوافدة على سوق الشغل ولنا في مثال البنك التونسي للتضامن أحسن مثال حيث نزل عدد المشاريع التي مولها هذا الصندوق من 14791 مشروعا سنة 1999 إلى 7667 مشروعا سنة 2005 و6152 مشروعا سنة2006 . كما لا يفوتنا في هذا المجال الإشارة إلى تواضع مساهمة القطاع الخاص في إفراز مواطن شغل إضافية بالرغم من الدعم المتواصل الذي يتلقاه من الدولة وهذا الواقع يعود في نظرنا الى طبيعة الاستثمارات التي يؤمنها هذا القطاع والتي يغلب عليها طابع المضاربة وتفتقر إلى الكثافة التشغيلية العالية. لكل هذه الأسباب أصبح من المتأكد العمل على تنويع نسيجنا الاقتصادي عبر الانتقال إلى نمط تنموي أكثر كثافة مؤسس على ميزات تفاضلية ديناميكية تفتح المجال لبحث أنمطة اقتصادية قادرة على استيعاب حاملي الشهادات العليا وتطوير الإنتاجية وخلق القيمة المضافة . ولتحقيق ذلك يصبح من اللازم التعجيل بوضع سياسة صناعية واضحة المعالم تؤمن التكامل بين القطاعات والجهات . وهذا الأمر لا يمكن ان يتحقق الا بالنجاح في إصلاح منظومتنا التربوية والتكوينية بما يلبي متطلبات الإنتاج ومستلزمات الرفع من الإنتاجية وتنمية القدرة التنافسية وتطوير التشغيلية. اختلالات هيكلية المحور الثالث الذي تعرض له التقرير تعلق بموضوع النظام الجبائي وقد سبق واشرنا في عديد المناسبات أن نظامنا الجبائي التونسي ما انفك يشكو من اختلالات هيكلية عميقة لا يمكن مواصلة التغاضي عنها نظرا لإضرارها بمستوى التكافل الاجتماعي ولتعارضها مع الوظيفة الاقتصادية للجباية .فالضريبة هي آلية من آليات تعزيز إعادة توزيع الثروة لدفع النمو الاقتصادي عن طريق تحفيز الطلب. إلا أن بعض الظواهر كالتهرب الجبائي ونظام الامتيازات الجبائية وكذلك القطيعة بين الواقع الاقتصادي والمؤشرات المعتمدة في الضريبة على الدخل جراء عدم تحيين شرائح السلم الضريبي منذ سنة 1990 تاريخ دخول الإصلاح الجبائي حيز التنفيذ. كل هذه المظاهر أصبحت تثقل صراحة، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فئة معينة من المطالبين بالضريبة وتحديدا فئة الأجراء دون غيرهم، بل وأصبحت تهدد النظام الجبائي نظرا لعدم قدرة هذه الفئة على مواصلة تحمل عبء هذه الاختلالات الهيكلية إلى ما لا نهاية له. لذلك أصبح من الواجب والمتأكد التعجيل بفتح ملف الإصلاح الجبائي للتفاوض في إطار حوار شامل بهدف المحافظة على توازن الميزانية وتقليص التفاوت المطرد في مساهمات مختلف الفئات الاجتماعية في المقابيض الجبائية وفق مبدإ الإنصاف والتكافل. سوف لن أضيف كثيرا في باب الإنتاجية وتعزيز التنافسية على ما سبق وعبرنا عنه بمناسبة انعقاد الاستشارة الوطنية حول الإنتاجية. يكفي ان أذكر فقط وبإيجاز أننا، في الاتحاد العام التونسي للشغل، لا ننكر دور الإنتاجية في نمو المؤسسة بل أننا أعلنّا في عديد المناسبات عن رغبتنا في فتح حوار بناء حول شروط ومتطلبات النهوض بالإنتاجية كمقوم من مقومات التنافسية وكرافد من روافد التنمية ببلادنا. مفهوم كلّي وللتذكير أيضا دعنا نقول أننا لا نشاطر الرأي الذي يختزل مفهوم الإنتاجية في مجرد الضغط على التكاليف كعنصر محدد للنهوض بالتنافسية. مثل هذا المفهوم ليس سوى مبررا للاستمرار في اعتماد نفس المنوال التنموي القائم على إدارة التنافسية من خلال الضغط على كلفة الإنتاج وخاصة كلفة اليد العاملة وما يترتب عن ذلك من تفشي مرونة التشغيل ونشر أنماط التشغيل الهشة وهي خيارات تتناقض في العمق مع مفهوم العمل اللائق كما حددته منظمة العمل الدولية والذي من دون ترسيخه كقاسم كشترك بين أطراف الإنتاج وداخل المجتمع لا يمكن أن نأمل في النهوض بالإنتاجية ولا في كسب رهان التنافسية. إن مفهوم الإنتاجية في نظرنا مفهوم كلي لا يرتبط فقط بعنصر الإنتاج بل له علاقة وطيدة بعناصر أخرى كالتكوين وتنمية المهارات ومستوى التأطير وتوفير روح المبادرة والابتكار ونوعية وحداثة التجهيزات والصيانة وطرق التصرف والتنظّم والعلاقات الشغلية الخ... ولكن أيضا بمدى توفر مناخ أعمال مناسب كسيادة القانون وإعادة الاعتبار للمؤسسة ولعديد القيم كقيمة العمل والمعارف والكفاءات والشفافية والمساءلة وهي عناصر إذا ما توفرت فإنها تجعل من الإنتاجية رافدا مهما من روافد التنافسية. أما إذا غابت فلن يكون للإنتاجية، حتى وان ارتفعت، مفعولا يذكر على التنافسية وعلى مسار التنمية عموما.