رأينا أعزائي القراء في الحلقة الأولى من هذه الدراسة، أنّ أطروحات التبعية ظهرت كرد نظري على فشل مشروع التنمية الوطنية المستقلة بذاتها التي صاغتها مدرسة الرأسمالية المحلية في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، وقلنا بأنه لا يمكن الحكم على بلد بالتبعية هو في حاجة إلى أطراف أخرى بحثا عن التغيير نحو الأفضل، وإنّما البلد يصبح في تبعية حين ينتج تطوره التاريخي شكلا اجتماعيا معينا أو نموذجا لمجتمع متماسك بطريقة مخصصة ويخضع لقوانين سلوكية وتحولية أنجبها هذا الشكل. وفي الحلقة الثانية تعرفنا على المحاور الرئيسية لمفهومية التبعية عند أندريه فرانك وسمير أمين وأرغري إيمانيال، ورأينا أن استيعاب التبعية عند هذا الفريق يتحدد عبر تبادل السلع بين الغرب المهيمن والآخر المتخلف؛ ويتحدد أيضا عبر هيمنة الشركات العابرة للحدود على اقتصاديات البلدان النامية التي التجأت إلى استقدامها لإقامة وتنفيذ الخطط الاستثمارية. وبينا بأنّ هذه الشركات تسعى إلى زيادة أرباحها باستغلال الموارد والأيدي العاملة الرخيصة والتسهيلات البيئية عند المتخلفين، وتسهر على تطبيق إستراتيجية كلية للسيطرة على اقتصاديات البلدان السائرة في طريق النمو قصد إبقائها ضمن منظومة الرأسمالية العالمية. وفي هذه الحلقة الثالثة والأخيرة سنتعرض إلى تيار ثاني يعالج التبعية كظاهرة شمولية، ثم نختتم دراستنا الحالية بالنقد الموجه لتيار التبعية. يقنن فريق ثاني من الباحثين في قضايا التنمية والتغيير بأمريكا اللاتينية مثل Cardoso وSunkel وFaletto وQuijano وضعية التبعية من البداية كوضعية شاملة تجمع جميع مستويات التركيبية الاجتماعية؛ وهذا يعني أن نظرية التبعية تبحث دوما عن تعريف هوية الشمولية التي تميز هذه الوضعية، وتظهر هذه الشمولية في مجموعة العلاقات التي تطورت مع مراحل التاريخ بين هياكل المجتمع الداخلية والهيمنة الخارجية؛ حيث ينطلق هذا الفريق في طرح أطروحة التبعية من بديهية تسرب (اختراق) الهيمنة الخارجية في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية بواسطة آليات الهيمنة، وأبواق الرأسمالية الغربية عند المتخلفين؛ وتكوّن هذه الآليات وحركتهم في نهاية المطاف الموضوع الرئيسي لنظرية التبعية، فهي تبحث أساسا في دراسة الأطراف بإدماج الحركة المتأتية من المركز. ومن هذا المنطق نجد أندريه فرانك، وسمير أمين على مسافة، ولو أنها ليست بالبعيدة من Dos Santos وQuijano وFaletto و Sunkel. فهؤلاء الآخرين من الذين يرون في التبعية عملا ملخصا لتداخل عوامل خارجية وأخرى داخلية يمتلك دينامكية خاصة؛ في حين نجد فرانك وفريقه من أنصار التبعية الخارجية، إذ يؤكد بأن هذه الدينامكية هي منتوج لمثيرات متأتية من الخارج دون سواها. ورغم أن فرانك عاد إلى قراءة التخلف في عمل ثاني، وحاول وضع روابط ثبات بين التبعية الاقتصادية والهياكل الطبقية والسياسية المسيطرة على دواليب الدولة في البلدان النامية، مؤكدا في هذا العمل بطريقة صارمة بأنه من غير المعقول فهم التخلف في مجتمع خاضع للخارج، إذا لم نقبل بأن التخلف منتوج تاريخي لسياسة داخلية متطابقة مع بعض المصالح الإمبريالية، والتي نجد دعائمها في الهياكل الطبقية والسياسية عند المتخلفين؛ إلا أنه واصل في اعتبار التبعية سيرا في السببية Processus de causalité حيث يلعب المركز المهيمن دورا رئيسيا، بينما تذعن الأطراف إلى مثيرات متأتية من هذا المركز (5 (. فنقطة الانطلاق عند أندريه فرانك هو سير عملية توسع النظام الرأسمالي وتأثيراته على البلدان النامية، وكان هدفه الرئيسي تطوير أطروحة باران Baran (6( التي تحدد التخلف في جهات الجنوب(مع حذف استراليا وزيلاند الجديدة)، كمنتوج للتنمية الرأسمالية وتناقضانها منذ العصر التجاري الأوروبي؛ في حين يؤكد الفريق الآخر على أن التبعية شكل من التماسك بين البلدان الصناعية والبلدان النامية، إذ أن دول الأطراف تتفاعل مع حوافز خارجية تصدرها الدول الصناعية لتحدث حراكا خاصا، ويشرح هذا الحراك كامل الروابط الموجودة بين المركز والأطراف. ويطرح Anibal Quijano بدوره مفهوم التبعية كظاهرة أنتجها العمل الموحد لتداخل عوامل خارجية وأخرى داخلية في آن واحد، حيث تظهر مقاربة التبعية عنده في إطارين مختلفين: من جهة الإطار الذي يتعلق بالخضوع الوطني تجاه الدول المهيمنة، وفي الإطار الثاني تظهر التبعية بوصفها مرتبطة بالقوانين التاريخية للأمّة، وبروابط هذه القوانين مع القوانين التي تدير النظام الرأسمالي بكامله. ومن هذا المنطق يصبح الموضوع المركزي لدى Quijano معرفة روابط الهيمنة التي تنتظم عبرها علاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية بشكل عام، بل وحتى العلاقات السياسية. وأفرزت عملية التصنيع في العالم الثالث فائضا في اليد العاملة على مستوى سوق الشغل، مما يدفع بهؤلاء نحو حرفيات يعتبرهاQuijano قطبا مهمشا داخل القطاعات الاقتصادية؛ إلا أن Quijanoيؤكد في معالجته لمشكل السكان المهمشين، على أن التصنيع آلية دمج اليد العاملة في سوق جديد، يتصف بالتمدن والصناعة Un mécanisme d'intégration au nouveau marché urbano-industriel وهو ما يبرر عدم إدخال التصنيع في ظاهرة التهميش، وإنما التهميش في دول العالم الثالث ناتج عن الشكل الذي يتطور بواسطته التصنيع، إذ هو يمتاز بهيمنة النشاط الصناعي على بقية القطاعات، وبسيطرة المحتكرين الدوليين على هذا التطور عبر إطار التبعية المالية والتكنولوجية؛ ليعمق هذا النمط من التصنيع التفاوت بين الطبقات الاجتماعية والتباعد بين القطاعات الاقتصادية. وتظهر المساهمة البارزة لدوص سانطوص Dos Santos Theotonia في نظرية التبعية على مستوى معالجة الآليات الاقتصادية الجديدة التي تربط العلاقات بين المركز والأطراف؛ وهذه الأطروحة قريبة من مقاربة كاردوزو Cardoso التي قننها تحت عنوان تدويل السوق الداخليinternationalisation du marché intérieur ، إذ يضع ديناميكية النمو في العالم الثالث في الإطار العام للتناقضات الداخلية على مستوى تطور عملية التصنيع. فالتصنيع في العالم الثالث مرتبط بعملية الاندماج في الرأسمالية العالمية تحت سيطرة رأس المال المحتكر الذي حول هياكل الإنتاج في البلدان التابعة، لتخدم مركز التقدم الصناعي في الغرب الرأسمالي. ويطرح Sunkel بدوره موضوع التبعية في إطار شامل للعلاقات بين الدول الصناعية والدول النامية، حيث لا يمكن قبول التخلف بأنه مرحلة من مراحل تطور المجتمع المنعزل اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، بل أكد Sunkel على غرارFaletto أن التخلف والتقدم وجهان لتطور كوني واحد: من جهة استقطاب العالم بين دول صناعية متقدمة اقتصاديا ودول فقيرة، ومن ناحية ثانية الاستقطاب داخل بلدان العالم الثالث بين عديد القطاعات الاقتصادية والمجموعات الاجتماعية التي تشكلت حول هذه القطاعات. وحاول توماص فاصكوني Tomas Vasconi في إطار التبعية الهيكلية(dépendance structurelle) طرح التطورات والأنماط الإيديولوجية في المجتمعات الخاضعة، حيث بدأ في طرح عناصر أطروحته بمعالجة الأعمال المتعلقة بالإيديولوجيات في أمريكا اللاتينية والتي تؤكد كلها على التناقض بين الحقيقة الاجتماعية في شبه هذه القارة والإيديولوجيات المطروحة في بلدان «القارة»، ويؤكد في شرحه لهذا التناقض على ظاهرة Européanisation وظاهرة اغتراب الطبقات المسيطرة والمثقفين والبيروقراطيين: فمن ناحية البلدان المهيمنة يؤكد فاصكوني على أن نشر الإيديولوجيات تعالج كأداة لتضخيم سيطرة الدول الصناعية على البلدان السائرة في طريق النمو، ومن جهة الطبقة المسيطرة في البلدان النامية تشرع الإيديولوجية سيطرة هذه الطبقة على بقية فئات المجتمع. لقد برزت الطبقات المسيطرة على القطاعات الاقتصادية وعلى دواليب الدولة في البلدان المتخلفة نتيجة تكوين روابط مع المجموعات والقطاعات العلمية والصناعية والثقافية والمالية الغربية، حتى أن الكثير من شعوبها باتت تتهمها بكونها أبواقا تخترق عبرها الإمبريالية العالمية أسواق ومجتمعات المتخلفين. فالهياكل الطبقية في اقتصاديات البلدان السائرة في طريق النمو ليست سكسونية، بل هي تأخذ وتعطى وتحدث نموا، ولكن دون أن تحقق تغيرا نوعيا على مستوى الإنتاج. وهي تسيطر أيضا على أدوات الإنتاج بآليات متفردة، لتصبح في نهاية المطاف مجرد وكيل للرأسمالية الغربية، في إدارة موارد الاقتصاديات المحلية، وتتقاضى عن وظيفتها هذه عائدا هو جزء من الفائض الاقتصادي الذي يذهب الشطر الأعظم منه إلى المركز الرأسمالي ليتراكم هناك. فأكثرية الطبقات العليا والمسيطرة على الجهاز الاقتصادي وعلى دواليب الدولة في البلدان النامية تؤدى دورها استنادا إلى موقعها الأدنى تجاه المركز الرأسمالي المهيمن على الأسواق العالمية، وهذه أمّ التبعية. ما هي نواقص مدرسة التبعية ؟ يلخص العديد من الاقتصاديين والباحثين حزمة النقد الموجهة لتيار نظرية التبعية، في التفضيل الدائم للظواهر الخاصّة بدائرة جريان السلع ورأس المال، مع إهمال الإجراءات التي تشكل مصدر تعديل جماعي للاقتصاد؛ فأطروحة أندريه فرانك إنماء التخلف le développement du sous-développement تقدم مثالا واضحا على الخلط بين نمط الإنتاج الرأسمالي والتبادل التجاري. إن رؤية التبعية للاقتصاد العالمي بكونه مركبا من سلسلة الأوطان الأم والتباع(Métropoles- satellites) لها ما يكفي للتأكيد على هذه الضبابية؛ فبروز وتنمية الأجراء بوصفهم قاعدة العلاقات الاجتماعية للإنتاج، والتي تقدم شرحا تاريخيا لنمط الإنتاج الرأسمالي، مفقودة في عروض نظرية التبعية عند أندريه فرانك. ويعود أيضا النقد الموجه لمدرسة نظرية التبعية، إلى الخلط بين الرأسمالية المحيطة (le capitalisme périphérique) والرأسمالية بمفهومها العام؛ فمع منتصف ستينات القرن المنصرم وما إن دخلت معظم اقتصاديات أمريكا اللاتينية في مرحلة من الركود النسبي، حتى اغتنم أنصار نظرية التبعية هذه الفرصة ليعلنوا اندلاع أزمة الرأسمالية، في هذه المنطقة من العالم. فإخفاق إستراتيجية العمل السياسي الناجم عن التحليل الاقتصادي والاجتماعي الذي صاغته مقاربات الرأسمالية التابعة، هو الذي أدى إلى رادات فعل واضحة على العمل السياسي، وإلى ارباك القطاعات المرتبطة بسير عملية التحول الاجتماعي في شبه قارة أمريكا اللاتينية؛ وأنجبت هذه الوضعية الاقتصادية الجديدة تغييرات في تركيبية السلطة لدى العديد من البلدان النامية. وقد يفسر ذلك باختزال الكثير من أنصار تيار التبعية، الرأسمالية بوجه عام في أنموذج خصوصي للتراكمية الرأسمالية؛ إذ أجمع العديد من أنصار هذا التيار في أمريكا اللاتينية بوجه خاص، بأنه لا توجد أية آلية، حتى في اقتصاديات الجهة ذات الدخل الكبير والمساحة الواسعة والتعداد السكاني الكبير مثل البرازيل والأرجنتين والمكسيك، تستطيع أن تؤمن العبور نحو المراحل المتلاحقة للتصنيع في استبدال الواردات. ففي بعض دول المنطقة مثل الأرجنتين والبرازيل والمكسيك وقع بعث نموذج نمو من أهم محاوره توسع الطلب على سلع التجهيز وتطوير أنشطة المعامل المصدرة، وفي جهات أخرى مثل الأكوادور وفينيزولا وباناما شكل النمو المتصاعد للثروة المعدنية والنفط قاعدة الإنعاش الاقتصادي، في حين شكلت موجة جديدة من استبدال الواردات دفعا لعجلة النمو وقع معاينته في بعض الدول الأخرى، حيث لا يزال هذا السير يواجه تأخرا هاما مقارنة ببعض بلدان المنطقة كالأرجتين والبرازيل والشيلي. وما يلام أيضا على أنصار نظرية التبعية، خلطهم بين استنفاذ نمط التصنيع المراد منه استبدال الواردات في اقتصاديات العالم الثالث، وتراجع النمو الذي يلاقي صعوبة في التكيف مع أشكال جديدة للاندماج في السوق العالمي. الهوامش *CEPAL : Commission Economique Pour l'Amérique Latine بول باران: «الاقتصاد والسياسة والتنمية « ترجمة أحمد فؤاد بليغ، مراجعة الدكتور حامد ربيع دار القلم القاهرة 1967. A.G.Frank: The development of underdevelopment Monthly Review n 4 1966 (1) 160 Samir Amin: le développement inégal Editions de Minuit 1973 p (2) (3)R M Marini :Dialectica de la depensia Mexique ERA série Popular 1973 p 38 Samir Amin : le développement inégal Editions de Minuit 1973 p. 183 (4) د.سمير أمين: « التطور غير المتكافئ « دراسة في التشكيلات الاجتماعية المحيطة ترجمة برهان غليون دار الطليعة بيروت 1978 A.G.Frank : Lumpen - desenvolvimento Porto , Portucalense editors 1971 (5) P. Baran A. Economia politica do desenvolvimento Rio de Janeiro zahar Editores 1964 (6) بول باران وبول سويزى: رأس المال الاحتكاري، ترجمة حسين فهمي ومراجعة إبراهيم سعد الدين دار الكتاب العربي القاهرة 1968