يحتلّ مفهوم العمل اللائق مكانة متميّزة و مستجدّة في أدبيّات الحركة النقابيّة العالميّة عموما و في خطاب الاتحاد العام التونسي للشغل خصوصا , تناغما مع ما فرضته نتائج العولمة الاقتصاديّة من انتهاكات في مجال ظروف العمل منذ عقد التسعينات من القرن الماضي تبعه تطوّر في خطاب الهيئات المهتمّة بعالم الشغل في اتجاه حماية أكثر نجاعة للعمّال داخل المؤسسات حماية تشريعيّة بلورتها جملة من الاتفاقيات التي أبرمت في صلب منظمة العمل الدوليّة و أسست للاهتمام بمفهوم العمل اللائق والتثقيف عليه انتهاء بإحياء اليوم العالمي للعمل اللائق يوم 7 أكتوبر من كلّ سنة. غير أنّ مفهوم العمل اللائق ظلّ مقتصرا تقريبا على ظروف العمل بالقطاع الخاص حيث تكون الانتهاكات أكثر شراسة بحكم هشاشة أشكال التشغيل و ضعف التمثيل النقابي و انحياز الدولة في الغالب للأعراف على حساب العمّال في هذا القطاع . و لا يكاد يطرح موضوع العمل اللائق في الوظيفة العموميّة رغم وجود عديد التجاوزات المخلّة به و المفضية إلى مناخات شغليّة صعبة يعانيها موظفو الدولة لعلّ قطاع التعليم الابتدائي يكون هو المثال الأبرز على تردي تلك المناخات اعتبارا إلى عدّة مؤشّرات نذكر منها : 1) التفاوت الهيكلي البيّن بين مختلف مستويات التعليم بمراحله الثلاث: الأساسي و الثانوي و العالي استنادا إلى حقيقة الفوارق التمويليّة والاعتبارية لتلك المستويات. 2) تكلّس التصوّرات المعياريّة الاجتماعية تجاه العاملين في قطاع التعليم الابتدائي حيث لا يزال المعلم في أدنى الترتيب التفاضلي بين زملائه في التعليم الثانوي و العالي بالنظر إلى حجم الراتب المادي لا بالنظر إلى أهميّة الدور المهني . 3) تبني الدولة لنفس التصوّرات المعياريّة المكرسة للتفاوت بين مستويات التعليم و ذلك بالامعان في تهميش التعليم الأساسي والاستمرار في ضعضعة أركانه الماديّة و المعنويّة بتقليص النفقات على هذا القطاع وفتح باب الخوصصة فيه عملا بالتوصيات المدمّرة الصادرة عن البنك العالمي وصندوق النقد الدولي تحت عنوان »الإصلاحات الهيكلية « التي عادة ما يتصدّرها الضغط على تمويل قطاعات التربية و التعليم باعتبارها »قطاعات غير منتجة « يستحسن التفريط في خدماتها للقطاع الخاص؟؟؟؟ و هو ما يستوجب التفكير في بحث ظروف العمل اللائق داخل هذا القطاع ليس فقط بدوافع النضال النقابي المطلبي بل من منطلق الحرص على سلامة المنظومة التعليميّة بحلقاتها الثلاث و التي يشكل التعليم الأساسي حجرها الأساس و بذرتها الأولى في المجتمعات النامية التي تطمح لأن تكون مجتمعات معرفة , إلى جانب التنبّه إلى الآثار المعنوية و الماديّة المدمّرة التي تلحق المعلّمين جرّاء استمرار هذا التعاطي التمييزي مع التعليم الابتدائي بتعكّر ظروف عملهم في ثلاث جوانب رئيسيّة أوّلها جانب المقدرة الشرائيّة و الوضع الاجتماعي و ثانيها جانب اهتزاز ما يسمّى بالرضا المهني جرّاء الضغوط المتزايدة للعمل الناتجة عن عدم استقرار البرامج و تعقّدها و تدنّي مردوديتها و تهميش أدوار المعلّمين في صياغتها و تقويمها, و ثالثها جانب تدنّي لياقة البنية الأساسيّة داخل المدارس الابتدائية و خاصة الريفية منها و هو ما يحيلنا للحديث عمّا بات يعرف في مجال علم النفس المهني بظاهرة الاحتراق النفسي L'épuisement professionel. التي تتركّز الأبحاث حولها اليوم بغية تحقيق ما يسمّى بالرضا المهني للعامل كمحفّز على الانتاجيّة. فما المقصود بالاحتراق النفسي ؟ و ما تجليات هذه الظاهرة على العاملين في سلك التعليم الأساسي ؟ و ما تاثير غياب شروط العمل اللائق في شيوع هذه الظاهرة المرضية عليهم ؟ يعتبر الاحتراق النفسي ظاهرة نفسيّة مهنية تتصل إلى حدّ كبير بالسلامة المهنيّة في جانبها النفسي ( و هو ما لا يلقى الأهميّة الضروريّة من طرف هياكلنا النقابيّة) و كان أوّل من تناول هذه الظاهرة الباحث النفسي فرويد بيرجرFreudh Berger معرّفا إيّاها بأنّها »حالة إجهاد و استنزاف للطاقة النفسية تنجم عن عدم قدرة الفرد على تحقيق الاهداف التي ينبغي تحقيقها «(1) كما عرّفها بأنّها »حالة من الاجهاد نجمت بتأثير الأعباء و المتطلبات المتواصلة والزائدة الملقاة على الأفراد بحيث تفوق طاقاتهم و قدراتهم المهنية« (2) و في أبسط تجلّي لأعراض الاحتراق النفسي على الموظفين عموما ما حدّده كالاميداس Calammidas فيما سمّاه أعراض الدرجة الأولى و المتمثلة في : 1) حرص الموظفين على الإجازات و العطل الأسبوعيّة و الأعياد و إبداء الفرحة لها . 2) إبداء الرغبة في التقاعد و الإكثار من الحديث عنه و عن مزاياه في الخلاص من العمل. 3) الانصراف إلى البيوت بسرعة مع انتهاء الدوام اليومي (3) و هي الأعراض التي يلمسها كل معلّم في سلوكاته اليومية جرّاء الضغوط المتداخلة التي أشرنا إليها و لا يغيب التعبير عنها تلميحا أو تصريحا من طرف كل المدرّسين تقريبا و هو ما ينعكس ضرورة على أدائهم المهني بطريقة يذكرها الدكتور أكرم عثمان في دراسته المعنونة" الاحتراق النفسي و علاقته بالاكتئاب لدى المعلّمين قائلا: »ويعتبر فقدان المعلم الاهتمام بالعمل عموماً وبتلميذه خصوصاً ، السلوك السلبي الرئيسي الناتج عن حالة الاحتراق النفسي ، وهذا من شأنه أن يدفع بالمعلم إلى معاملة تلميذه بطريقة آلية وبدون اكتراث ، وبالإضافة إلى ذلك ينتاب المعلم حالات من التشاؤم ،اللامبالاة ، قلة الدافعية ، مقاومة التغيير ، فقدان القدرة على الابتكار في مجال التدريس ، التغيب غير المبرر وغير ذلك من الظواهر السلبية.«(4) هذه الانعكاسات السلبيّة للاحتراق النفسي تتعزّز أكثر في ظلّ الامعان المتواصل في تجاهل آراء المعلّمين حول مهنتهم و هيكلتها و ظروف تعاطيها هذا التجاهل الذي صار يتعزز اليوم بارتجاليّة غير مبرّرة من طرف وزارة الإشراف ليس فقط في التمسّك بمقاربة فاشلة كالكفايات الأساسيّة ولكن في التمسّك بنفس التمشّي الذي انتهى إلى الفشل باستبعاد المعلّمين عن صنع القرار الخاص بمهنتهم و هي مفارقة غريبة تتناقض حتّى مع مقولات المقاربة بالكفايات التي تجعل من طرق تحصيل المعرفة أهمّ من المعرفة ذاتها . و إذا طبّقنا هذه القاعدة نقول أن توفير أفضل ظروف العمل اللائق للمعلّمين ضمانا لنجاح مهمّتهم أهمّ من المهمّة ذاتها إذ لا نجاح و لا قيمة لمهمّة خارج نطاق ظروف نجاحها الموضوعيّة . فهل أنّ ظروف العمل الحاليّة للمعلّمين في أغلب المؤسسات التربويّة تتوفّر على ظروف عمل لائقة؟ آخذين بعين الاعتبار الفوارق بين الجهات (المدارس الريفية والمدارس الحضرية)و الأصناف ( المدارس الخاصّة و المدارس العموميّة) والمستويات (المدارس الإبتدائيّة و المدارس و المعاهد الثانويّة) فنجد أنّ التفاوت جليّ وبيّن من حيث نوعيّة الظروف بين المدارس العموميّة في الداخل و الأرياف و نظيراتها في المدن الكبرى و الخاصّة في علاقة بنوعيّة الوسط الاجتماعي و حجم مساهمة الأولياء و فعاليّتهم في الإحاطة بالمدرسة الإبتدائيّة فيما نجد الأوساط الشعبيّة في استقالة شبه تامّة عن متابعة نوعيّة التعليم وظروف العمل بمدارس أحيائهم و لا مجال لمقارنة المدرسة الإبتدائيّة بالمدرسة الإعداديّة أو المعهد الثانوي حيث تولد هذه المؤسسات مكتملة معماريا و خدماتيا فيما تولد المدرسة الإبتدائيّة بالتقسيط و بلا أيّ فضاءات تكميليّة (لا مخابر لا قاعة معلّمين على غرار قاعة الأساتذة ، لا قاعة رياضيّة و لا حجرات ملابس ...) و لا مجال لمقارنة المدارس العموميّة بالمدارس الإبتدائيّة الخاصّة التي صارت تستقطب أبناء النخبة الإداريّة والماليّة ( من حيث نوعيّة الفضاءات و التجهيزات و الوسائل التعليميّة ووسائل الترفيه و التحفيز ...) و ما يعنينا هو حقيقة ظروف العمل في مدارس التعليم العمومي التي نعتقد أنّها بمعطياتها الراهنة تسهم في تفشي ظاهرة الاحتراق النفسي لدى المعلّمين بما يزيد من تدهور أدائهم و يقلّل من جودته في ظلّ العمل بمقاربة الكفايات الأساسيّة التي أثبتت فشلها الذريع في إرساء تعليم ناجع يستجيب لشعار »مجتمع المعرفة « التي تطمح المجموعة الوطنيّة لتحقيقه في ظلّ عالم مليء بالتحديّات و هنا يتحتّم ذكر بعض تفاصيل هذا الوضع الذي يعاني منه المعلّم يوميا و لا يكاد يراه الملاحظ العابر و ذلك بالإشارة إلى جملة من النقائص التي تعدّ من ضرورات العمل اللائق أو هي من المؤشّرات الدّالّة عليه في المدارس الإبتدائيّة العموميّة و منها: عدم توفّر قاعات للمعلّمين . عدم توفّر إطار للتأطير و الإرشاد التربوي بالمدارس يؤطر التلاميذ خارج الأقسام . عدم توفّر معينات عمل كافية و مخابر ووسائل طباعة . عدم توفّر إطار إداري يتكفّل بإعداد كشوفات أعداد الامتحانات . استمرار ظاهرة الاكتضاظ بالأقسام . عدم إقرار أسبوع مغلق لإنجاز و إصلاح الاختبارات عدم ضبط ساعات عمل أسبوعيّة مناسبة لحجم العمل المنجز في القسم و في المنزل . عدم مراعاة الخصوصيات المناخيّة للجهات في ضبط العطل لا سيّما عطلة نهاية السنة في المناطق الحارّة . عدم مراعاة بعض الجوانب الصحيّة داخل الأقسام ( المصاطب الخشبيّة الدّافئة شتاء و الماصّة للثقل , نوعيّة الطباشير المستعمل ) و كما نلاحظ فإنّ الضغوط المسلّطة على المعلّمين في إطار أدائهم لمهنتهم أضخم بكثير من نظرائهم في مستويات تعليميّة أخرى رغم أنّ دورهم الموضوعي في المنظومة التعليميّة أهمّ و أخطر و هو ما لا تراعيه السياسة التعليميّة منذ القديم و ظلّت هذه الدونيّة تتوارث في ارتباط وثيق بما يراد للمدرسة العموميّة من أدوار لتكريس التفاوت الاجتماعي وإعادة إنتاجه حسب مقاربة بيير بورديو(5) ممّا أفضى إلى شيوع مواقف سلبيّة جديدة تجاه المدرسة و من أدوارها التنويريّة و الاجتماعيّة نذكرمنها أنّ : المدرسة صارت مصدرا للاستنزاف الاقتصادي و إنهاكا لموارد الأسرة. المدرسة صارت مضيعة لفرص الاحتراف المبكّر لمهن يدويّة أو خدماتيّة لم تعد المدرسة تفضي لأحسن منها . المدرسة لم تعد مدخلا لتحسين الوضع الاجتماعي و ارتقائه أمام ندرة التشغيل و صعوبته و عسر مسالكه . مهنة التعليم لم تعد ذات موقع اجتماعي متميّز كما كانت في السابق و لم يعد المعلّم مصدرا للأخلاق و المعرفة بل صار(حسب ممارسات أقليّة جشعة ) عبئا على ميزانيّة الأسرة في ظاهرة الدروس الخصوصيّة . و هو ما مهّد لظهور خلل في العلاقة بين المدرسة و محيطها و اهتزازا مروّعا لمكانة المعلّم و صورته ، ممّا صعّد من ظواهر العنف المدرسي و العنف الموجّه ضدّ رجال التعليم بما ضاعف من ضغوطهم و عدم اطمئنانهم في مهنتهم . إنّ تعميق البحث في ما هو مخفي و غير منظور من الضغوطات المسلّطة على المعلّمين في إطار التحوّلات المجتمعيّة الراهنة و في النظرة لدور المدرسة العموميّة هو من أوكد الضرورات النقابيّة التي يتوجّب على مختلف هياكلها رصد هذه الضغوطات و إبرازها للرأي العام حتّى لا يسود الاعتقاد بأنّ المعلّمين هم من أكثر الموظفين حظوظا لتنعّمهم بالعطل و بالرواتب المجزية و بالظلال الوارفة في الأقسام و أنّ نضاليّتهم المطلبيّة المشروعة ليست جشعا و لا تنكّرا للنعم بل إنّ واقع الحال أنّ من شبّه المعلّم بالشمعة التي تحترق لتنير سبل غيرها لم يكن بعيدا عمّا أثبته العلم من أنّ ظاهرة الاحتراق النفسي هي فعلا ما بات يعانيه المعلّمون في صمت و لكنّهم لا يشتكون . الهوامش (1) ورد في» سيكولوجية العلاقة بين الرضا المهني و الاحتراق النفسي« دعد الشيخ : المجلّة العربيّة للتربية /ديسمبر 2002. (2) لازاروس lazarus / المصدر السابق (3) المصدر السابق (4) د. أكرم عثمان / دراسة على مدوّنته الإلكترونيّة dakram.maktoobblog.com http:// (5) بيار بورديو : (1930/2002) عالم اجتماع فرنسي وأحد أبرز المراجع العالمية في علم الاجتماع. بدأ نجمه يبزغ بين المتخصصين انطلاقًا من الستينيات بعد إصداره كتاب الورثة (مع جون كلود باسرون) وكتاب إعادة الإنتاج (مع المؤلف نفسه)، وخصوصا بعد صدور كتابه التميز/التمييز في نهاية السبعينيات. خالد العقبي عضو النقابة الأساسيّة