قد يكون من السذاجة اعتبار وسائل الإعلام، وسائل إعلام فقط، بل علاوة على أنها وسيلة إعلام هي تعبير عن خط تحريري وعن موقف وعن تصور للأحداث وعن صناعة رأي عامّ حيال بعض القضايا والمسائل. وفي إطار من تنوّع الآراء والمواقف والخطوط التحريرية، لا يُطلب من أية وسيلة إعلام الاصطفاف مع هذا الخطّ أو ذلك، بل يُطلب منها الالتزام بالمعايير الأخلاقية والمهنية وعدم تجاوز القوانين المحلية المعمول في البلد الذي تشتغل فيه مكاتبها. وعند الحديث عن المحطات الإخبارية الكبرى، فإنه يتنزل ضرورة ضمن سياق "جيوبولوتيك الميديا"، أي تأمين هذه القنوات لأدوار سياسية واستراتيجية ضمن توازنات القوى الإقليمية والدولية. وعند حديثنا عن "جيوبوليتيك الميديا" فإننا نتحدث بالضرورة عن القوة الناعمة في سياقها الإعلامي والرمزي والفكري والسياسي، وهي قوّة أثبتت هوليوود ومراكز صناعة السينما أنها أقوى من الدبابات. ولن نجانب الصواب إن قلنا بأنّ هذه المحطات الكبرى تعمل بمثابة وزارة الخارجية الموازية والرخوة، حيث يكون الخطاب أكثر وضوحا وتأثيرا وشدّة وصراحة للجمهور. بهذا المبدإ، فإنّ الجزيرة ليستْ باستثناء عن كافة المحطات الإعلامية الأخرى، على غرار "العربية" ومعروفة بأي لسان تتحدث، و"سكاي نيوز" و"الحرة" و"فرانس24"، و"روسيا اليوم"، و"الميادين" و"العالم"، و"دوتش فيلا".... على هذا الأساس، يُطرح سؤال واضح هل أنّ إغلاق مكتب الجزيرة يتنزل ضمن بعض الأخطاء القانونية المقترفة وهنا لابد من بيانها للجمهور، أم أنّه يتنزل ضمن تصفية وتكميم الأصوات الرافضة لإجراءات ليلة 25 جويلية وتقليم أظافر العواصم الواقفة ورائها، وهو تمهيد لما يُمكن أن يكون عليه الحال لاحقا.... ولئن سلمنا فرضا بانّ الجزيرة تعبر عن تشبيك محلي إقليمي دولي وتشابك سياسي إعلامي جيواستراتيجي، فإنّ إغلاقها والإبقاء عن غيرها من المعبرين عن تقاطعات مغايرة ومخالفة يعطي انطباعا إما بأنّ تونس ذاهبة نحو محور إقليمي بعينه أو انها في أحسن الأحوال صارت تعادي محورا بعينه، وفي الحالتين نفي لمبدإ المسافة الموضوعية وسياسة الحياد الإيجابي المعروفة عن تونس. وفي أي دولة ديمقراطية او في طور الانتقال الديمقراطي، فغلق المؤسسات الإعلامية يعود إلى هيئات تعديلية مستقلة تمتلك حق الإشراف على المشهد السمعي البصريّ، أمْ أنْ يكون الأمر في يد السلطة التنفيذية فهو مؤشر لتغوّل خطير... في الختام، من الواجب كما نراه البحث عن عقد اجتماعي جديد، فإشكاليات تونس لن تُحلّ بالتدابير الاستثنائية ولا ب"المستبد العادل" ولا ب"تصحيح الثورة" وفق رؤية أحادية، بل بعقد اجتماعي قائم على التشاركية وعلى المحاسبة والمساءلة والحوار . عسى ان يقف المشهد التونسي عند محور السد لكاتبه الرائع والراحل محمود المسعدي، وأن لا يدفعنا بمقتضى إكراهات الواقع إلى محور اللص والكلاب لصاحبه الراحل نجيب محفوظ، حيث الانتكاس بعد الثورة والتطبيع مع الفساد بعد مقاومته.... تقول الرائعة فيروز "فيه أمل"... أكيد فيه أمل.... والله أعلم *أمين بن مسعود: كاتب ومحلل سياسي تونسي