لم يبادروا الدولة بالعداء، ولكن حين جوّعهم فرزها الأمنيّ قرّروا الجوع أكثر، ثمانية وعشرون مضربا عن الطعام منذ يوم 17 ديسمبر الجاري بالنيابة على رفاقهم، هم الآن في مقرّ الاتحاد العام لطلبة تونس، يخمشهم الصقيع، يفري عظامهم فريا، وتصير الأمعاء من شدّة الحاجة إلى الرّغيف أرقّ من خيط العنكبوت، كانوا من صفة الديناميت، منظمتهم واتحاد أصحاب الشهادات المعطلين العمل شاهدان على نضالاتهم التي أربكت السلطة فحرمتهم من حقهم في الشغل والحرّية وأبسط مقوّمات الحياة الكريمة، حتّى أحزانهم حرموا منها في بعض اللحظات. يجدر بنا الاعتراف أنّه بات من الضروري إدانة هذه الدولة، رمتنا بأسهم الأنظمة فصار الفعل الثوريّ محض لعبة شطرنج سياسية، كأنّ المؤرّخ فيها لا يكتب إلا ليسطو على آخر قطرة دم تبقّت في جسد مضرب منّا. هل فعلا نحن آدميون أمام هذا الموت البطيء؟ وهو الذي يكتب في حين أنّنا نحيا إزاء تأبين ميتافيزيقيّ يقوّض ويخصي بعدنا الإنساني؟ ماذا سيكتب بدمنا، نحن الذين صرنا حنطة الثورة وقد باضت الذهب للآخرين؟ هل سنقرأ في زمن قادم بأن سقراط شهيد والبوعزيزي مجرّد همجيّ وبربريّ؟ هل سنقرأ مثلا أن الدموي الذي قتل ونكّل بالثوّار صار منقذا وبطلا أسطوريا؟ هل سنقرأ بأن الله كان ضعيفا إلى درجة جعلته يطلب من مخلوقاته الدفاع عنه ولو بالدم والبارود؟ هل سنقرأ بأن الجرحى هم أيضا أناركيون؟ وهل سنقرأ بأنه في عهدنا انقلبت لعبة الشطرنج بيننا والدولة؟ هل سنقرأ بأن الأحزاب والجمعيات والمنظمات جميعها ثورية باستثناء الذين قتلوا بالرصاص في الشوارع؟ هل سنقرأ بأن الشاعر هو الذي سجن الدولة واغتصبها واحرق كتبها؟ وأن المسرحي هو الذي منعها من السفر وحرمها من الرغيف كي تكمل عملها حول ملحمة جلجامش؟ هل سنقرأ بأن سيدي بوزيد مدينة يعيش بها جراد تسبّب في سقوط أكثر الأنظمة ديمقراطية في العالم لذلك توجّب لعنها وتهميشها والنضال في سبيل عودة هذا النظام؟ هل سنقرأ أيضا بأن رجال الأعمال وطنيون جدا لكن الشعب حرمهم من مساعدته؟ هل سنقرأ بأن كل هؤلاء الزعماء من سلالة المحاربين ونحن الفقراء أبناء بغايا وعاهرات؟ وماذا عن سيرتنا الجموح؟ هل نحن الآن في محفل الجوع ندفع فاتورة ثوريّتنا؟ هل إلى هذه الدرجة نسحق كالنّمل؟ ألم نكن نحن من أنقذ راية البلاد من الحداد؟ الآن وهنا، فقط ثمّة مضربون أجسادهم ترتجف جوعا، ثمّة حلم، ثمّة وجع إنساني موجع حدّ التشظّي، ثمّة من هم كانوا أطول الواقفين في ساحات الرّفض، ثمّة رجالات.