لا أحد تقريبا ينكر أنه ورغم مرور 10 سنوات من الثورة ، ومع كل المنجزات التشريعية (على هنّاتها)والواقعية التي حصلت سواء من خلال تركيز المجلس الأعلى للقضاء أو عودة نشاط الجمعيات القضائية ، فإن المشهد القضائي لم يتغير كثيرا ، بل لعله ازداد سوءا باعتراف عدد من القضاة أنفسهم (يراجع حوار سابق على ميدي شو مع السيدة روضة قرافي في الموضوع )..بل أضحينا نصحى كل فترة على فضيحة تهتز لها صورة العدالة في ذهن المواطن التونسي ولعل آخر " الإبداعات القضائية" أن يواصل رئيس أعلى محكمة ورئيس الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين مباشرا لمهامه وهو متهم بأكثر من جريمة ..الواضح أن تحليل أسباب هذا التدهور في القضاء متشابك ومتعدد الأبعاد ، ولكن إجمالا يمكن تلخيص الأسباب في النزعة القطاعية المقيتة التي استشرت (وليس في القضاء فقط) والتي تستنجد بكل أشكال " الزبونية النقابية " خاصة في ظل الصراع بين النقابة والجمعية ، يضاف إلى ذلك تنامي الإفلات من العقاب وتواطئ المجلس الأعلى للقضاء في ذلك ، دون أن ننسى محاولات التوظيف الحزبي والسياسي من طرف الفاعلين السياسيين …إلخ قتامة هذا المشهد لا ينبغي أن يخفي عنا حقيقة ثابتة أيضا وهي مقاومة عدد هام من القضاة لهذا التدهور ، وهي مقاومة متفاوتة من السعي إلى القيام بالأعمال الموكولة لهم بكل تفان واستقلالية ورفض الإنخراط في الإصطفاف ..لنجد أيضا درجة أكثر تجذّرا في المقاومة بالخروج إلى الرأي العام والتشهير بأوجه الفساد والتصدي لمحاولات التدجين والتوظيف من خلال الفضاء العام …الحادثة الأخيرة التي تتمثل في ضبط قاضية شابة متلبسة بمسك كمية هائلة من العملة الصعبة تتجاوز المليار ، وحين تمّ استنطاقها صرحت بأنها قامت بهذه العملية " على وجه الفضل " لفائدة اشخاص بالجنوب ، ويضاف إلى ذلك بلاغ الديوانة الذي أكّد أن الامر يتعلق بشبكة تهريب عملة تمّ رصدها من مدة ، ولم تكن القاضية سوى حلقة ضمن سلسلة من أشخاص يشتغلون بالتهريب ..الأكيد أن سلوك القاضية لا يليق بمكانة القاضي ومقتضيات مهنته ، بل أن ذلك أحدث رجّة هائلة دفعت العديد إلى التشكيك في كامل العائلة القضائية ، بل وصلت التخميرة بالبعض إلى اختلاق أخبار مفتعلة في حق قائمة قضاة أمضوا مجرد عريضة…لكن …حسب رايي ، الأهم مما صدر عن القاضية (على خطورته) والتي تمثل الحلقة الأضعف بحكم أن دورها يقتصر على تسهيل عملية نقل المبلغ باستغلال وظيفتها ، وربما كان ذلك مقابل بعض الاف الدنانير ..ألاخطر من كل ذلك هم الأشخاص أصحاب هذا المال المبيّض أي الحوت الكبير ، وهم الآن يشكلون الخطر الأعظم على أمن البلاد ووجود الدولة ..هؤلاء هم مافيا التهريب والتجارة الموازية الذين اصبحت لهم أذرع داخل أجهزة الدولة : فيالقضاء والديوانة وفي الأحزاب وحتى داخل الوزارات والإدارات الهامة …إنهم الآن يأخذون الدولة رهينة باستعمال التهديد والابتزاز أحيانا ودفع الرشاوي والعمولات أحيانا أخرى …إنهم اضحوا يشكلون منظومة كاملة العناصر وقادرة على التحرك والفعل في كل الإتجاهات وتتبع البعض من " صناعهم وصبيانهم لا يغير من الأمر شيئا …المطلوب اليوم قرار سياسي واضح في تفكيك هذه المنظومة وأنا على يقين أن الاجهزة ألامنية تتحوّز على كل المعلومات اللازمة لإنجاز عملية التفكيك بكل حرفية …المشكل الحقيقي ليس فقط الإرادة السياسية ، المشكل الحقيقي هو أن الأجهزة المناط بهعدتها القيام بهذه المهمة سواء القضاء أو الديوانةأو الأمن لا زالت تنخرها مظاهر الفساد ، بل واضحت مخترقة من هذه العصابات المافيوزية ..الخلاصة : لن يكون من الممكن تفكيك منظومة التهريب ومافيا التجارة الموازية دون إصلاحات كبرى داخل المؤسسة القضائية والأمنية وتطهيرها من العناصر المتواطئة والمستفيدة من النشاط المافيوزي ومن الإختراقات الحزبية والسياسية..والمسؤولية الأساسية في هذا النهج تعود على الشرفاء والوطنيين من أبناء المؤسستين القضائية والأمنية ..وهذا أيضا يتطلب أيضا قرارا سياسيا في فتح ملف إصلاح حقيقي للقضاء والأمن …