الأكيد والأكيد جدا أن الذي يحدث في عالمنا اليوم من اضطرابات وخاصة في منطقة الشرق الأوسط.. هو مقدمة لما سيشهده العالم بأسره خلال العقود وربما السنوات القادمة.. إن انفجار الأوضاع في المنطقة العربية لا يمكن النظر إليه فقط من خلال منظار تأزم الأوضاع الداخلية في دول المنطقة وإنما أيضا هو ارتداد طبيعي لما يشهده النظام العالمي الحالي من هزات ومن مصاعب وتعقيدات تؤكد كل التحاليل والتقييمات والتقديرات أنه سيستمر ويتواصل لفترات طويلة لأسباب موضوعية كثيرة أهمها وأخطرها الركود الإقتصادي العالمي.. العالم ومنذ وقت طويل مقسم إلى فريقين: 1. فريق غني يتمتع بالثروة والسلطة والقوة.. 2. فريق يعاني من الفقر والحرمان والتهميش.. أصحاب الثروة لا يفكرون فقط في الحفاظ على ما عندهم من قوة ومال وثروة بل هم يسعون دائما إلى كسب المزيد وهم لا يشبعون أبدا ومستعدون لفعل كل شيء من أجل المحافظة على مكتسباتهم والاستزادة … المستضعفون في الأرض من المعدمين والمفقرين والمهمشين يكافحون من أجل البقاء وفي أحيان كثيرة هم ينفقون من صحتهم وأعمارهم من أجل سد رمقهم ورمق من هم في كفالتهم.. رأس مال الفقير هو جهده وعمله…وهو يؤجر ذلك الجهد وذلك العمل من أجل كسب ما يسد به رمقه… العالم اليوم يتغير… لم يعد لذلك الجهد البشري نفس قيمته بالأمس.. عدد السكان بالعالم بلغ حدودا مهولة.. الانتاج لم يعد بحاجة إلى يد عاملة كثيرة…تحقيق المزيد من الربح وتكديس الثروة يتطلب الضغط على التكلفة .. والضغط على الكلفة يقتضي يد عاملة بخسة وقليلة وذات كفاءة عالية لتقوم فقط بمراققبة الآلات والآليين وهم يقومون بالعمل… هناك ضغط كبير على الموارد.. التي بدأت تشح بشكل خطير.. هذه هي المعالة.. إنها معادلة مستحيلة التحقق… إلا لفترات محدودة .. ثم تنفجر في وجه الجميع… إن الركود الإقتصادي الذي غرق فيه العالم بأسره نتيجة طبيعية لوفرة الانتاج وضعف قيمة المواد الأساسية وتفشي الفقر والبطالة في العالم… الاقتصاد العالمي الجديد المبني على التجارة وعلى فتح الأسواق ورفع كل القيود أمام تدفق السلع وجد نفسه أمام معضلة وطريق مسدود وهو تقلص وضعف المقدرة الشرائية للناس… انتشار الفقر والبطالة في العالم خلق أعراضا جانبية غير متوقعة من طرف الأغنياء ألا وهي الهجرة السرية.. فالإنسان ومنذ وجوده على الأرض عرف بأنه رحالة وأنه يتنقل دائما بحثا عن الظروف الأفضل التي تسهل عليه العيش والحياة.. وعبثا تحاول الآن الدول الغنية منع تدفق الأمواج البشرية الهادرة التي تخترق حدودها بحثا عن فرص لحياة أفضل ولو وهمية لأن الحلم بحياة أفضل يغري أكثر من البقاء وسط القحط وانتظار الموت.. الدول الغنية وكعادتها عملت على تصدير أزماتها إلى خارج حدودها .. وهو الأمر الذي زاد من تعقيد الأوضاع وتأزمها أكثر على المستوى العالمي .. وجعل مخاطر الانفجار الأوضاع في وجه الجميع تكبر أكثر فأكثر… إن العالم الغني سيكون واهما لو أنه تصور أن الحرائق التي يشعلها في مناطق مختلفة من العالم من أجل التنفيس عن أزماته الداخلية لن تطاله شضاياها ولن تشعل الحرائق بداخله… إن تدمير حياة شعوب بأسرها وتفقيرها ومحاصرتها بالقحط والأوبئة والحروب من أجل نهب مقدراتها .. سيدفع تلك الشعوب حتما إلى المخاطرة بكل شيء من أجل الحفاظ على بقائها.. فمن لا يملك شيئا لن يتردد في المراهنة بكل شيء من أجل الحفاظ على بقائه ولو كان الأمل في تحقيق غايته تلك ضئيلا… إن البلدان الغنية تنشر الدمار وتلعب بالنار.. وأن نفس تلك النار ستحرق في النهاية الأخضر واليابس.. ولن تقدر كل أسلحة وجيوش تلك الدول عن حمايتها من ثورة الجياع والمعدمين المتفقين في هجرات بالملايين نحو حدودها .. إن عودة الهدوء إلى العالم وإعادة النظر في النظام العالمي والكف عن هذا السباق المحموم نحو الهاوية هو السبيل للخروج بهذا العالم من المصير المدمر الحالك الذي ينتظره… فالظلم والحرب والنهب لا يمكن أن يؤسس نظاما مستقرا ومستديما مهما بلغت قوة ردع الظالم .. النار تشتعل في كل مكان وتتوسع يوما بعد يوم.. ومنسوب التوتر يعلو بنسق خطير… من كوريا الشمالية إلى أكرانيا إلى منطقة الشرق الأوسط إلى فينزويلا إلى البرازيل إلى أوروبا إلى الخليج.. إلى أفغانستان وإيران وتركيا..إلى ليبيا ومصر والسودان والمغرب وتونس… كلها مناطق توتر واحتقان وتململ.. الفوضى تزداد انتشارا في العالم وتتوسع رقعة تأثيرها.. والدول الغنية والفاعلة واللاعبة الرئيسية في كل ما يحدث تتظاهر بالعجز عن إطفاء الحرائق التي تقوم بإشعالها… لكن الأكيد أن ذلك لن يدوم لفترة طويلة .. لأن الحريق إذا استحكم لن يخلف وراءه إلى الرماد ولن يفرق بين الأعشاب والأشجار…