تونس (تحرير محمد صالح العبيدي) - ارتبطت منطقة قرطاج، الواقعة بالضاحية الشمالية للعاصمة، في الذهنية العامة للتونسيين بعمقها الحضاري الضارب بجذوره في أمد التاريخ. في المنطقة، خزان "اركيولوجي" يروي قصص الماضي من "بيرصة" و "أميلكار" إلى "صلامبو" و"حنبعل" .. شخوص فاعلة في تأسيس الحضارة التونسية ينظر اليها العالم بهيبة وتستدرجها الذاكرة لتكون شاهدة على بطولات غابرة. ورغم الأهمية التاريخية للمنطقة وما يحتضنه جانب كبير منها من آثار تعود للتاريخ البعيد، إلا أنها تعيش اختراقا وتعديا على صبغتها التاريخية وهو ما نجده مثلا بجهة "قرطاج محمد علي" الواقعة في المدخل الغربي لقرطاج والتي تحتوي على مناطق غابية وأثرية تعد من المحميات التي لا يمكن أن تكون عمرانية، إلا أنها شهدت بعد الثورة زحفا سكانيا بعد أن استغل الكثيرون فرصة الأوضاع المضطربة بالبلاد لشراء أصول عقارية على غير وجه حق. وفي هذا الإطار يقول رئيس جمعية متساكني قرطاج صلاح مدللة، أن "قرابة 48 هكتارا من المناطق الأثرية و9 غابات بالمنطقة مهددة بالزوال في أمد قريب قد لا يتجاوز السنة، وذلك بسبب الزحف العمراني حيث قام العديد من السماسرة ببيع أراضي أثرية يمنع البناء فيها". من جهة أخرى أكد عدد من الذين اشتروا هذه الأراضي بأن المسألة تخرج عن نطاقهم لأنهم لا يتحملون مسؤولية صيغة الأراضي وأنهم بحاجة ماسة إلى السكن وإيواء عائلاتهم. وتقول حبيبة القيزاني (37 سنة مالكة لأصل عقاري) في هذا الصدد أنها اشترت قطعة ارض مساحتها 350 متر مربع عن طريق احد السماسرة بمبلغ قيمته 7 آلاف دينار مشيرة إلى أنها شككت في البداية في طبيعة العرض إلا أنها اقتنعت في الأخير بأن شراء قطعة أرض في هذه المنطقة يعتبر مكسبا هاما. وتضيف في نفس السياق مبروكة الضيف، أن التحديات التي تفرضها الحياة وغلاء تكلفة الكراء يجعل من السهل تصديق أي كان يقدم عرضا من هذا النوع ، وتبين في ذات الصدد أن "بعض الأشخاص الذين ارتبطت أسمائهم بأصهار الرئيس السابق هم من يلعبون دور السماسرة في المنطقة". من جانب آخر تذمر عدد كبير من الأهالي الأصليين لحي محمد علي والمعلقة معتبرين أن ما يحصل تجاوزا للقانون وضربا لقواعد التهيئة العمرانية. وفي هذا الاطار يرى فوزي الطاهري من متساكني المنطقة أن ظهور هذا النوع من البنايات الفوضوية في منطقة غابية وأثرية سيخلق مشكلا اجتماعيا وظواهر غريبة قد تكون لها انعكاسات سلبية على مستوى التواصل الاجتماعي بالمنطقة. ويعتبر أن هذا الانفلات الحاصل في استغلال أراض لها صبغة تاريخية وأثرية "تتحمل فيه الدولة والسلط الجهوية جزءا كبيرا من المسؤولية" داعيا في نفس السياق إلى تدخل الشرطة البلدية بكل جدية وصرامة للقضاء على هذا النوع من المباني الذي يشوه على حد تعبيره ملامح المدينة التاريخية. ولمزيد من التوضيحات حول هذه القضية ومعرفة موقف السلطات المعنية من الظاهرة التي ما فتئت تتفاقم، التقت "وات" بنائب رئيس بلدية قرطاج زياد الهاني، الذي أوضح أنه من الناحية القانونية يمنع البناء في هذه المنطقة وأن الذين اشتروا يعرفون مسبقا أنها ارض أثرية ورغم علمهم بكل الحيثيات إلا أنهم ارتضوا أن يكونوا ضحية لمغالطات وغش عدد كبير من السماسرة بالمنطقة. وبين أن "الموقع هو على ملك الأشخاص وهو من جهة أخرى مصنف كآثار محمية قانونيا" مؤكدا أن الموقع "فوق كل الأشخاص من حيث القيمة الاعتبارية التي تتجاوز الاستحقاق العيني"، مضيفا انه "لا يمكن إنكار حاجة الناس للسكن ولكن الصبغة التاريخية للمكان تفرض الحفاظ عليه بكل السبل". وأكد أن الحل الوحيد في هذه الأزمة هو أن تتدخل الدولة بشراء هذه الأراضي من الملاك الأصليين وتقوم بحمايتها من خلال تسييجها بالإضافة إلى تمكين الأشخاص الذين شيدوا منازلهم من سكن في مناطق تكون قريبة. وارجع المسؤول البلدي أسباب جهل الأشخاص لأهمية هذه المنطقة إلى "ضعف الأنظمة التعليمية الوطنية التي لم تعط "دولة قرطاج" حقها في الشرح والتوصيف" على حد قوله. وأضاف أن الانفلات العمراني في هذه المنطقة من شأنه أن يخلق وضعا اجتماعيا يستحيل تداركه اذ من الضروري على السلط العمومية أن تجد الآليات الكفيلة في إطار التعاون الدولي وخاصة مع منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو"، بحفظ هذه المواقع. وأكد في هذا الإطار على دور الجمعيات الأهلية التي يجب أن تكون في المقدمة للمحافظة على الصبغة التاريخية والحد من تضخم النسيج العمراني الذي يفتقر في المنطقة لشبكات الصرف الصحي والبنية التحتية اللازمة. وعرج السيد زياد الهاني على الجهود التي تبذلها بلدية قرطاج من أجل الحفاظ على الصبغة التاريخية للمنطقة رغم الصعوبات المادية قائلا "أن بلدية قرطاج تعيش عجزا كبيرا حيث لا توجد بها موارد ذاتية لذلك وجب التفكير في إيجاد صيغ لتعزيز الرصيد المالي من اجل مجابهة الأوضاع المحلية".