عندما تم تدشين المدرسة الابتدائية بزاوية الجديدي مسقط رأسي في أكتوبر 1949 أي زمن الاستعمار الفرنسي بفضل أصحاب الخير والنوايا الحسنة، كان وقع الحدث عظيما جدا في نفوس الأهالي. وكادوا لا يصدقون ما الذي حصل بعد أن عاشوا أميين وذاقوا مرارة الجور والطغيان والفقر والحرمان. ولكن الحلم والحمد لله بات حقيقة وواقعا ملموسا. وكان الإقبال على تسجيل الأبناء بدون تردد وانطلق العمل بادارة المرحوم المربي الفاضل سيدي علي بن عمار والذي يعود أصله إلى سليمان. وتواصل مع معلمين تونسيين وفرنسيين وفي مؤسسة تربوية تحتوي على قاعتين ومسكنين ومجموعة صحية وكنا حريصين أشد الحرص على مقاومة الجهل والنجاح في الدراسة بالرغم من قساوة الظروف التي لا ترحم. وما هي إلا بضع سنوات حتى كان الاستعداد لاجتياز امتحان الشهادة الابتدائىة لأول مرة في تاريخ القرية. وهذه الشهادة تتمتع بشهرة عالية وواسعة في مختلف الأوساط وهي حديث الناس بجميع أصنافهم ومستوياتهم وتعد لها الولائم وتعم فيها الأفراح في النهار والليالي الملاح. والويل كل الويل لمن يخفق ولا مجال إلى أن يعود الى الدار وما عليه إلا أن يتدبر أمره في كيفية الهروب لمدة طويلة لأن العقاب يشمل ربط الأطراف والضرب المبرح والحرمان من الأكل والشرب والأشغال الشاقة في الميدان الفلاحي. وكنا نمتحن فيها كتابيا وشفويا في جميع المواد بما فيها القراءة وما يتبعها من أسئلة والمحفوظات وحتى الأناشيد بالعربية والفرنسية ومع العلم أن التراتيب والقوانين المدرسية الجاري بها العمل لا تعترف (في الرسميات) إلا بالحصول على (السيزيام) للإنتقال الى التعليم الثانوي. وحتى يحقق مديرنا الذكي الهدف الذي رسمه وحتى يزاحم خاصة بني خلاد المجاورة لنا والتي تسبقنا بعديد السنوات في هذا المجال رشح لهذا الاختبار الذي كان يجري بقرمبالية مجموعة من النجباء يثق في مستواهم وفي قدراتهم الذهنية وهم السادة الأجلاء المتقاعدون حاليا 1) الجديدي رحومة 2) سعاد قريبع 3) نزيهة الحمامي 4) محمد الهيشري 5) المولدي الطرابلسي (السكودار) وكان له ما أراد وكانوا كلهم عند حسن الظن. وما عليكم إلا أن تتصوروا شريط الفرحة الكبرى التي انطلقت من مركز الامتحان والاعلان والذي كان يعج كالنمل ومن مختلف الأعمار والأجناس وعلى طول الطريق التي تمتد الى حوالي 10 كلم كانت (زمارات) السيارات على قلتها تخترق الفضاء بسرعة البرق ليسمع صداها في كامل أرجاء المحيط الريفي المترامي الأطراف. وكانت سيارة سيدنا المدير التي تعتبر أعجوبة عصرها تتبختر في المقدمة ولا تسمح لأي عربة بأن تتجاوزها بالرغم من سرعتها التي لا تتعدى 30 كم/ساعة وبالرغم من الخلل الذي كان يصيب الأضواء من حين لآخر. وكان الوصول التاريخي وكان الاستقبال الرائع في ليلة ليلاء زادتها النجوم والقمر ضياء وبهجة وبهاء وكان الناجحون كأنهم ابطال افريقيا فيفري 2004 بعد أن شرفوا بلدتهم أيما تشريف وبعد أن رفعوا رؤوس مربيهم وآبائهم بكل فخر واعتزاز. وكان المدير من أسعد الخلق على وجه الأرض بعد أن حقق نسبة 100 في أول امتحان تتقدم له هذه المدرسة الصغيرة والفتية ومحطما بذلك الأرقام القياسية المسجلة سابقا في المدارس المجاورة وذات العراقة في التعليم سواء في قرمبالية أو في سليمان أو منزل بوزلفى أو بني خلاد. وكان يتقبل التهاني بصورة لا توصف وكان يحق له أن ينتشي ويتباهى والى جانبه حرمه الفاضلة السيدة شامة رحمها الله وهي تبتسم فخورة بما أنجزه زوجها. وتواصلت المسرات بالتطبيل والتصفيق والغناء والرقص والزغاريد وسالت دماء الحيوانات في المنازل وأمام ضريح الولي الصالح سيدي الجديدي تبركا به وانهمرت دموع والدتي العزيزة (فاطمة) رحمها الله وطال احتضانها لأخي محمد، أما أبي (حسن) رحمه الله فلم تعد الأرض تسع فرحته وحتى يعبر عن كيفية مكافأة ابنه البكر أبى إلا أن يذبح بنفسه عجلا سمينا وفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه بالرغم من الوضع الاجتماعي الصعب الذي نمر به.... وعشنا أوقات من الزهو والطرب ومن اللهو البريء واللعب. وتمضي الأيام وأنجح بدوري في هذه الشهادة بعد مرور سنتين على هذا الحدث الذي ستخلده الذاكرة وواصلت تعلمي وتحصلت على شهادة انتهاء الدروس الثانوية الترشيحية في أواخر السنة الدراسية 64/1965 ولكن الجزاء كان بسيطا في كل مرة واقتصر على بعض المشروبات وخمسة دنانير شاركت بها في رحلة جماعية الى جزيرة الأحلام جربة. * المربي المتقاعد : عثمان الهيشري