رأينا في الحلقة السابقة موقف التصوّر الكاثوليكي للمسألة الصهيونية، كما رأينا التصور البروتستانتي الذي يعتقد بأن عودة المسيح لتتوحّد المسيحية واليهودية. وسيدخل هذا المسيح (يسوع الناصري) المسيحية في العصر الألفي (السعيد) (الخلاص لكل البشر)، وهذا لن يتحقق الا بعودة اليهود، وبناء الهيكل الثالث (مكان مسجد قبّة الصخرة)، وهذا سيؤدي الى انطلاق أحداث نهاية التاريخ حسب التصوّر التاريخي الديني لهذه الأصولية «ان انشاء «دولة اسرائيل»، أهم حدث في التاريخ المعاصر، إنه يمثل الخطوة الأولى نحو بداية نهاية الزمان» وهذا التصور تم تأسيسه على ما جاء في العهد الجديد «فإني الحق أقول لكم الىأن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل. فمن نقض احدى هذه الوصايا الصغرىوعلم الناس هكذا يدعى أصغر من ملكوت السموات. وأما من عمل وعلّم فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات». (متّى 5.) «الألفية السعيدة» وقد تطوّرت المسيحية الأصولية من حالة التصوّر العقيدي، الى ايديولوجيا سياسية، وهو ما دعيت بالصهيونية المسيحية. وبينما تشكل فلسطين بلادا مسيحية مقدّسة في المعتقد الكاثوليكي، فقد أصبحت في المعتقد البروتستانتي هي الأرض اليهودية المقدسة، أو الأرض المقدسة للشعب المختار، والتي يجب ان يعود اليها الشعب المختار كمقدمة لمجيء المسيح المنتظر، وليأذنوا بدخول العصر الألفي السعيد، وهذا المعتقد يشكل حجر الزاوية في الخلاص البروتستانتي، والذي يقوم على الأركان الثلاثة وهي أن اليهود هم شعب ا& المختار وأن هناك رباطا إلهيا مقدّسا بين الشعب اليهودي المقدس والأرض المقدسة، وأن المجيء الثاني للمسيح مرتبط بعودة اليهود الى الأرض المقدسة، وتشكيل دولة اسرائيل ثانية كمقدمة شرطية لعودة المسيح، والتي لن يتحقق الا بقيام «دولة اسرائيل» واحتلال مدينة القدس (تحقق ذلك سنة 1967)، وإعادة بناء هيكل سليمان، ومن بعدها قيام حرب هارمجدون الكونية، والتي تسعى المسيحية الأصولية البروتستانتية الى تحقيقها، وقد تفشت هذه الأفكار بشكل واسع في المحيط الانقليزي،ولا سيما أثناء حرب الثلاثين عاما (1618 1648م). مواقف بارزة من اليهود لقد كان أبو المسيحية البروتستانتية مارتن لوثر (1483 1546) في البداية قد شجّع اتباع مذهبه البروتستانتي على التسامح مع الجماعات اليهودية، من أجل كسب اليهود، الذين، حسب قول مارتن لوثر: «إذا أردنا ان نجعلهم خيرا مما هم، فعلينا ان نعاملهم حسب قانون المحبّة المسيحي، لا قانون البابا، علينا أن نحسن وفادتهم وأن نسمح لهم بأن يتنافسوا وأن تتيح لهم فرصة فهم الحياة والعقيدة المسيحيتين، وإذا أصرّ بعضهم على عناده فما الضرورة في ذلك؟ نحن أنفسنا لسنا جميعا مسيحيين صالحين»، «إن ا& خلق اليهود أسيادا، وما نحن الا الكلاب التي تأكل من فتات موائدهم». ولكن مارتن لوثر الناسك ذا المزاج العصبي تراجع عن خطابه الديني المتسامح هذا في سياق مسيرته، وتبنى موقفا شديد التطرف، بل وأشد تطرفا من المذهب الكاثوليكي، فشرّع وحرّض على القيام بممارسات اضطهادية ضدّهم، وهو في هذا السياق يقول «أيقنت أن اليهود أناس غلاظ الأكباد، انحرفوا عن شريعة موسى، وزوّروا كتبه وأقواله، أما معابدهم فما هي الا مواخير للفسق والفجور، فيجب علينا احراق كتبهم المزوّرة، وتدمير معابدهم القذرة لننقذ شعبنا من خطرها، فلو عاد موسى بنفسه للحياة لأمر بحرقها، وإزالتها من الوجود»، ويتابع في وصفه لليهود «هم وحوش ضارية، وأفاع سامة، يجب مطاردتهم حيثما كانوا والقضاء عليهم كما يقضى على الكلاب المسعورة» كما نادى بطرد اليهود من العالم الاوروبي الى فلسطين، وقد صرّح سنة 1544م «من يمنع اليهود من العودة الى أرض يهوذا؟ لا أحد... سوف نزودهم بكل ما يحتاجون اليه في سفرهم...، لا لشيء الا لنتخلص منهم انهم عبء ثقيل علينا، انهم مصيبة كبيرة علىوجودنا»، فالتخلص من اليهود هو الهدف الأسمى»، وقد تفشى هذا الخطاب اللوثري في شكليه التسامحي والعقابي. قال عالم اللهوت توماس برايتمان (1562 1607م) «إن اليهود كشعب سيعودون ثانية الى وطن آبائهم الأوّلين لا من أجل الدين، كما لو أن ا& لا يمكن أن يعبد في مكان آخر، بل لكي لا يكافحوا كغرباء ونزلاء لدى الأمم الأجنبية». وكان من أتباعه هنري فنش عضو البرلمان الانقليزي، ومستشار الملك، وهو الذي قال مخاطبا اليهود «ان ا& سيجمعكم من كل الأماكن التي تفرقتم فيها، وسيعيدكم الى وطنكم» كما يرى الفيلسوف الهولندي اليهودي باروخ سبينوزا (1632 1677) وقد أطرد من حضيرة الدين من قبل المؤسسة الحاخامية، بأن حل المشكلة اليهودية يتمثل إما في اندماجهم الكامل في مجتمعاتهم الاوروبية التي يعيشون بينها، أو في عودتهم الى فلسطين. أما الفيلسوف فيخته فقد قال «لا يوجد بديل الا بغزو أرض الميعاد وارسالهم اليها لأنهم لو حصلوا على حقوقهم المدنية في أوروبا فانهم سيدوسون على كل المواطنين الآخرين. روما لقاء توطين اليهود وكان جنرال فرنسي واسمه فيليب دي لانجالري (1656 1717) تقدم بعرض غريب الى السلطة العثمانية مفاده بأن يقود هو بنفسه جيشا من الحجاج المتنكرين الى الفاتيكان حيث هناك يلقى القبض على البابا، ويسلّم روما للاتراك، مقابل أن يمنحه العثمانيون جزيرة في المتوسط لتوطين اليهود تحت حماية السلطنة العثمانية. أما أديسون فقد كتب 1712م ما مفاده ان اليهود يشبهون الأوتاد والمسامير في البناء، فهي أدوات لا قيمة لها بذاتها، لكنها ذات أهمية كبرى بالنسبة لاحتفاظ البناء بهيكليته، وهو بذلك عبّر بطريقة مزدوجة عن هامشية الجماعات اليهودية، وعن أهمية وضرورة تلك الحالة الهامشية، وهذا الخطاب هو نفسه ما كان قد ردّده ماركس بعد قرابة قرنين من الزمان،إذ كان يرى أن اليهود هامشيون،ولكن على الرغم من هامشيتهم وحرمانهم من حقوقهم المدنية والسياسية، الا أنهم هم من كانوا يصنعون مصير الكثير من الدول، وبمعنى آخر إن الهامشية اليهودية كانت تمارس قرارات مركزية من خلال وظيفتهم كأقنان للملك، ومن خلال بيوتات المال اليهودي. جون لوك واليهود من الصهاينة غير اليهود المشهورين في تلك الفترة الفيلسوف جون لوك (1631 1704م) واسحاق نيوتن (1642 1727م) وجوزيف برشلي (1733 1804م) وجيم بشينو الذي نشر سنة 1800م كتابه «عودة... اليهود أزمة جميع الأمم» الذي طالب فيه حكام بريطانيا («باستخدام نفوذهم لدى الباب العالي للتخلّي عن هذا الجزء من الأرض الذي طرد منه اليهود، وإعادته الى أصحابه الشرعيين») وهنري إنس الذي طالب من الأوروبيين ان يتمثلوا بقورش الذي أعاد اليهود الى أرض الميعاد. ومن ألمانيا يول فيلجنهوفر الذي نشر كتابه (أخبار سعيدة لاسرائيل) سنة 1655م، والذي قال فيه «إن اليهود سوف يعترفون بالمسيح على أنه مسيحهم، بمناسبةمجيئه الثاني». نابليون: اليهود يفترسون فرنسا لقد تبنت العديد من الشخصيات من شتى دول أوروبا مثل تلك التصوّرات، من السويد والدنمارك وبولونيا وإيطاليا وبريطانيا والبابا كليمنت الثاني. ويقول نابليون بونابارت «لا يمكن لاي انسان ان يعمل على تحسين صفات اليهود...إذ يجب أن نسنّ لهم قوانين تخصهم وتنحصر فيهم، فمنذ عهد موسى كان اليهود طغاة ظالمين أو مرابين حاقدين، ان موهبة اليهود تتركز في أعمال النهب والسلب والاحتيال، وهم يعتقدون حسب تعاليم التلمود أن ربهم يبارك سرقاتهم وجرائمهم وخطاياهم، فيجب علينا أن نحظر على اليهود التعامل بالتجارة وأعمال صياغة الذهب لأنهم يشكلون أحط صنف بشري في هذا المجال، إن اليهود هم جراد وديدان نهمة تفترس فرنسا، يجب أن لا تعتبر اليهود طائفة وانما شعبا، فاليهود يشكلون شعبا يعيش في قلب الشعوب الاخرى، انهم يشكلون شعبا قادرا على القيام بأبشع الجرائم فعلينا أن نعتبرهم أجانب وغرباء، وليس هناك حقارة أكبر من حكم اليهود للناس لأنهم أقذر الأجناس البشرية على سطح الأرض» هذا هو موقف نابليون بونابارت من اليهود. ويرى فولتير «اليهود همجيون لأنهم أذلاء في العسر ووقحون في اليسر ستجدون في اليهود شعبا همجيا جاهلا وعدوّا للقيم الانسانية الرفيعة، وقد عرفوا بالبخل الكريه منذ زمن طويل». أما الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه فيقول «قريبا سيدعونا القرن العشرون للتفرج على أهم مشهد في فصوله القاتمة ألا وهو القرار الذي سيتخذه اليهود فيما يتعلق بمصيرهم، ومن الواضح جدا أنهم ألقوا الآن بنردهم، واجتازوا النهر الى الضفة الثانية، وهم يسيرون الى الأمام ولديهم خيار واحد: إمّا ان يصبحوا أسيادأوروبا وإما أن يفقدوها الى الأبد، كما خسروا سابقا أرض مصر حين خرجوا منها، وقد يمكن لأوروبا أن تقع في أيديهم مستقبلا».