من رحم النظام، ومن صلب الوطنية التونسية، خرج الرجل الأقوى والأقدر، وأيضا الأرصن والأرجح عقلا، إضافة إلى أنه الأزهد في الحكم، والأبعد عن مطامعه، لينقذ تونس الخضراء، وليعيد لها شبابها، وليحميها من خطر الفوضى وربما التلاشي. ومن خلال زين العابدين بن علي، تحقّق في تلك الأيام الحلم، وتكرّست مشاعر تلقائية، وأمنيات لا تشرح بالضرورة، هي انعكاس أيضا لتخمينات شعبية كانت تراهن على الوزير الأول إذّاك، وترى فيه السّبب والوسيلة القادمة لتغيير الأوضاع. فقد كانت قوة ما تشّع من ذلك الرجل الهادئ، الكتوم، وكانت صورته تعكس جدية وسط ناد سياسي أعضاؤه كأنهم في سيرك. وتعكس حزما يفتقده الناس في الفوضى ويتذكرون عندما يعيشون مآلات الإنحلال. كما تعكس انتباها ويقظة والحال أن تونس كلّها يكاد يغمى عليها في تلك الأيام الخوالي المظلمة. وإذا ما تجاوزنا المعاني الوطنية للتغيير، وانكببنا على المعاني السياسية التي حملها، لكرّرنا أنه كان إيذانا بأن المشهد السياسي كلّه سوف يتغيّر وفي العمق، وأن الأفكار ستتبدّل وأن المواقع والتحالفات ستشهد خلط أوراق. فالحزب الحاكم، ذلك الهيكل الوهن الضعيف، بدأ يستوعب من جديد جحافل بالآلاف من المنخرطين، وهرعت قوى من زبدة النخبة صوبه تثريه بالعناصر النوعية، وتدعم هياكله، وتعيده إلى الواقع. أما الاتحاد العام التونسي للشغل فقد فضّ ارتباطه بالعمل السياسوي وعاد إلى مهامه النقابية متناغما تماما مع التغيير ومع الرجل الذي أنقذ تونس، وشهدت الجامعة بعد سنوات قليلة، اكتساحا من قبل التجمعيين بعد أن كانت حكرا على قوى اليمين واليسار. أما الأحزاب الديمقراطية، فإنها وإن باركت التغيير، وساندته بقوّة، واعترفت له بعمله التاريخي، ربما أنها عاشت ارتباكا مرجعه أن التغيير يعبّر كلّه، عن طموحات تلك الأحزاب الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية، بل ويمتلك وسائل تحقيقها. وبالتالي فإن المهجة الشعبية ستزيد في مسايرته، لصالحه (أولا) وبالتالي لصالح الحزب الذي سوف يؤتمن على التغيير (ثانيا). وأعتقد أن في هذه المتغيرات، ما يشرح إقدام كلّ الأطراف على إمضاء وثيقة الوفاق الوطني. فمن جهة توجد أرضية واحدة يمكن للجميع أن ينطلق منها، هيأ لها بيان السّابع من نوفمبر وهو وثيقة وطنية وسياسية معا. ومن جهة أخرى انتفت أسباب الصراع بشكلها القديم وإن أصرّ عليها طرف أو أطراف فإن نتيجة الصراع أو التنافس السياسي، ستكون لصالح الوضع الجديد، الذي بويع شعبيا وتلقائيا وبإجماع منقطع النظير، والذي امتلك شرعية لا يمكن المزايدة عليها. لقد سحب التحوّل من عدّة قوى بريق خطابها السياسي، ونبّه مبكّرا قوى أخرى (وأولها قوى التطرف) أنه عليها أن تتغيّر فإن لم تستطع أو لم ترد، فإنها حتميا سوف تغيّب عن المشهد، وقوامه السّلوك المدني، واحترام قواعد اللعبة العلنية الشفافة، والامتثال للقانون، ودعنا نقول صراحة أن التحوّل منحها فرصة، ووفّر لها إمكانيته، بل وسعى إلى تشجيعها وتطمينها وإدماجها في قواعد القانون والأخلاق معا لكنها تعنّتت ورفضت ظنّا منها أنها تمكّنت وانغرست في الواقع التونسي. لكن الواقع كان يفوز بحقائق جديدة، ويرشح بالحديث (الجديد) الذي يتخبّأ في المهجة العامّة، وفي الوجدان الشعبي، ولدى الرأي العام حقائق إما لم تنتبه لها بعض الأطراف أو هي رفضت أن تنتبه مكابرة وجحودا لا يقودان في الميدان السياسي إلا إلى الخسران المبين. فالسياسة كما هو معلوم فنّ إدارة الواقع، وليس فنّ تخيّل مشهد. ثم إن ركيزتها النّاس لا ما يحضّر في دهليز ويخطّط له في الزوايا وخاصية التحول أنه كان يعبّر أولا عن النّاس، وأنه في شكله أتى دستوريا مسايرا للقانون، وهو عملية انقاذ وطني شامل لا حركة مغامرة ذات أفق أو غاية محدودة، ترمي إلى التخلّص من شخص أو من شكل حكم، أو تريد أن تنتقم من عصر وتصفّي حسابا مع عهد. إن الرئيس بن علي أقدم على التغيير وهو مسلّح ب: الأسباب الوطنية، وغايتها تونس. البعد الإنساني، فالتحوّل لكلّ التونسيين. الرّفق بالجميع وتصالح الكلّ مع الكلّ. فلا مكان للظلم ولا للبغضاء ولا للكراهية. لقد تصرف الرئيس بمنطق رجال الدولة الكبار، وبحسّ المنتصر لشعبه لا لنفسه، وبأخلاق القادة المظفرين الذين يهدون ما حققوه لأوطانهم. وقد طوى صفحة من تاريخ تونس ليؤسّس لأخرى، في كنف الهدوء، والاستقرار، والوفاق، والعمل، والبذل، والإبداع. وقد التقط الشعب فيه بيسر شمائله الأخلاقية، وحسّه الإنساني الرفيع. واحترموا فيه قوّته الهادئة، وعمله المتواصل، وجهده المثابر، فعهدوا إليه بكلّ ثقة أن يرتّب البيت السياسي، وأن يغيّر الأوضاع، التي كان يفعل فيها أيضا العامل التاريخي ويرتّبها مع الإرادة الرئاسية منطق التحوّلات الكبرى التي تهضم أو تودّ ما يتماشى معها من أوضاع انطلاقا من الحقائق الجديدة، ومن تأثيرها المباشر في المشهد السياسي. فقد كان التحوّل حدثا تاريخيا.