ذكرني صديقي محمد عاشور قارئ رشائيات، أن يوم 22 سبتمبر هو ذكرى ميلاد السلطان عبد الحميد الثاني، وكان قد شاهد في رمضان مسلسل «سقوط الخلافة» الذي أدى فيه دور السلطان الممثل الرائع عباس النوري، والذي أعطانا صورة مختلفة عما أوصلته لنا حكايات التاريخ. فلماذا أجحف التاريخ وظلم السلطان عبد الحميد؟ عبد الحميد الثاني شخصية تاريخية أثارت جدلا كثيرا، حيث ينظر اليه البعض على أنه مصلح عادل، حكم دولة مترامية الأطراف متعددة الأعراق بدهاء وذكاء، ومدّ في عمر الدولة والخلافة العثمانية، ضد الأطماع الاستعمارية الغربية، ورفض اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. كما ينظر اليه آخرون على أنه مستبد ظالم ديكتاتور، حكم هذه الامبراطورية الشاسعة لمدة 33 عامًا حكمًا فرديًا، كانت كلمته هي الأولى والأخيرة؛ واضطهد الأحرار، وقتل بعضهم، ولم يسلم منه الا من خضع له. ولد عبد الحميد في 22 سبتمبر 1842م، وهو ابن السلطان عبد المجيد الأول الذي يعد أول سلطان عثماني يضفي على حركة التغريب في الدولة العثمانية صفة رسمية، وعُرف عهده بعهد التنظيمات، أي تنظيم شؤون الدولة وفق المنهج الغربي. ربته زوجة أبيه التي أولته محبتها بعد وفاة والدته الشركسية، لذا منحها عند صعوده الى العرش لقب «السلطانة الوالدة». درس الكثير من كتب الأدب والدواوين الشعرية والتاريخ والموسيقى والعلوم العسكرية والسياسية، باللغتين العربية والفارسية ،وكان يحب مهنة النجارة، وما تزال بعض آثاره النجارية موجودة في المتحف. توفي والده وعمره 18 عامًا، فصار ولي عهد ثانيا لعمه «عبد العزيز»، الذي قتل في مؤامرة دبرها بعض رجال القصر، واعتلى العرش من بعده مراد الخامس شقيق عبد الحميد، ولكنه لم يمكث على العرش الا 93 يومًا فقط، حيث تركه لاصابته باختلال عقلي، وأهم ما كتب عن حياة مراد الخامس المسرحية التي كتبها الأستاذ الحبيب بولعراس ومثلها علي بن عياد. عبد الحميد الخليفة السابع والعشرون في الخلفاء العثمانيين، تولَّى العرش وهو في الرابعة والثلاثين من عمره ،مع اقتراب حرب عثمانية روسية جديدة، وظروف دولية معقدة، واضطرابات في أنحاء الدولة، وقعت الحرب سنة 1877م، وتعد من كبرى حروب ذلك الوقت، ومني فيها العثمانيون بهزيمة كبيرة، واقترب الروس من اسطنبول لولا تكتل الدول الأوروبية ضد روسيا، وحضور الأسطول الانقليزي الى ميناء اسطنبول، وأُمليت على العثمانيين معاهدتا صلح هزليتان هما: آيا ستافانوس، وبرلين، اقتطعت فيهما بعض أراضي الدولة العثمانية، وفُرضت عليها غرامات باهظة، وهُجّر مليون مسلم بلغاري الى اسطنبول. شعر السلطان عبد الحميد بأنه أجبر على قرار الحرب بسبب ضغوط مدحت باشا الصدر الأعظم الذي حرّض طلبة العلوم الدينية العليا للقيام بمظاهرات تجبر السلطان على الحرب. لذلك قام بتعطيل الحياة النيابية الى أجل غير مسمى ،واستمر هذا التعطيل مدة ثلاثين عاما ونصف، بعد حياة نيابية استمرت عاما واحدا كان الحادث المهم الذي أثار أوروبا ضد السلطان عبد الحميد هو رفضه اسكان وتوطين المهاجرين اليهود في فلسطين، فقد كانت أوروبا المسيحية تريد تصدير مشكلة اليهود التي تعاني منها الى الدولة العثمانية. وكان أول اتصال بين «هرتزل» رئيس الجمعية الصهيونية، والسلطان عبد الحميد، بعد وساطة قام بها سفير النمسا في اسطنبول، سنة 1901، وعرض هرتزل على السلطان توطين اليهود في فلسطين، وفي المقابل سيقدم اليهود في الحال عدة ملايين من الليرات العثمانية الذهبية كهدية ضخمة للسلطان، وسيقرضون الخزينة العثمانية مبلغ مليوني ليرة أخرى. لكن السلطان لم يقبل وأخرجه من حضرته بصورة عنيفة. وجاء في مذكّرات هرتزل «ونصحني السلطان عبد الحميد بأن لا أتخذَ أية خطوة أخرى في هذا السبيل، لأنَّه لا يستطيع أن يتخلى عن شبرٍ واحد من أرض فلسطين؛ اذ هي ليست ملكًا له، بل لأمته الاسلامية التي قاتلت من أجلها، وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني بأن يحتفظ اليهود بملايينهم وقال: اذا تجزّأت امبراطوريتي يومًا ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حيٌّ فانَّ عمل المِبْضَعِ في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بترت من امبراطورية الاسلام، وهذا أمر لا يكون» الا أن أعظم مشروعاته الحضارية كانت سكة حديد الحجاز لتيسير الحج على المسلمين، وكان السفر عن طريق القوافل وكان يستغرق أربعين يومًا، و بالخط الحديدي أربعة أيام. وقد خلق هذا المشروع العملاق حماسة دينية بالغة بعدما نشر عبد الحميد الثاني بيانًا للمسلمين يدعوهم فيه الى التبرّع، وافتتح القائمة بمبلغ كبير؛ فتهافت المسلمون من الهند والصين وبقية العالم على التبرع،ووصل أول قطار الى المدينةالمنورة في 1908، وما زال هذا الخط موجودا الى اليوم . في أفريل 1909 قامت اضطرابات في اسطنبول قتل فيها بعض الجنود ورجال حزب الاتحاد والترقي المناهضين للسلطان، و رأى الاتحاديون ضرورة التخلص من السلطان عبد الحميد، واتفقت هذه الرغبة مع رغبة الدول الأوروبية الكبرى خاصة بريطانيا التي رأت في ذلك الخطوة الأولى لتمزيق الامبراطورية العثمانية، تنازل السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش لأخيه محمد رشاد سنة1909، وانتقل مع 38 شخصًا من حاشيته الى سلانيك بطريقة مهينة ليقيم في قصر يمتلكه يهودي بعدما صودرت كل أملاكه، وقضى في قصره بسلانيك سنوات مفجعة تحت رقابة حيث لم يسمح له حتى بقراءة الصحف. تُوفِّي السلطان عبد الحميد الثاني في فيفري 1918، عن ستة وسبعين عامًا، واشترك في تشييع جنازته الكثير من المسلمين. وقد قال عنه جمال الدين الأفغاني: «انّ السلطان عبد الحميد لو وزن مع أربعة من نوابغ رجال العصر، لرجحهم ذكاء ودهاء وسياسة».