بموفى 29 أكتوبر 2003 تكون الهيئة المديرة المنبثقة عن المؤتمر الخامس قد استكملت نظريا نيابتها بعد أن سايرت حياة الرابطة مدة ثلاث سنوات تميزت بالتفاف مناضلي حقوق الانسان حولها. وقد مثل حدث استئناف الرابطة لوظيفتها بعد نصب الحراسة القضائية عليها مكسبا تجاوز حدود المناضلينالرابطيين ليشمل كل فعاليات المجتمع المدني. لقد كان الدفاع عن الرابطة مبعث اعتزاز وافتخار واعتراف بالجميل لهذه المؤسسة التي استطاعت ان تكون مدرس من مدارس النضال الديمقراطي وامتدادا للحركة الوطنية والثقافية والدستورية بالبلاد ومفخرة من مفاخر تونس ومكسبا من مكاسبها. فبفضل استقلاليتها ونضالية منخرطيها واطاراتها ووطنيتهم حققت الرابطة الأهداف التي انشأت من أجلها: دفاع عن الحرية ونشر لثقافة حقوق الانسان ووقوف الى جانب قضايا الحق والعدل حبا وتقديرا للانسان في كل مكان حتى اصبح المناخ السياسي والاجتماعي في تونس لا يحتمل فقدا للرابطة أو بديلا لها. وقد بنت الرابطة مجدها وقوتها واشعاعها على جملة من المبادئ انتهجتها اسلوبا لعملها وأخصها الاستقلالية واللامركزية. 1 الاستقلالية : تعتبر الاستقلالية الضمان ضد التبعية بأشكالها السياسية والمالية وغيرها لذلك كرس النظام الداخلي للرابطة هذا المبدأ بالتأكيد انها مستقلة عن جميع الحكومات والأحزاب. كما أقر المؤتمر الرابع المنعقد يومي5 6 فيفري 1994 عدم الجمع بين المسؤوليات القيادية بالأحزاب والمسؤوليات القيادية بالرابطة. كما رفضت الرابطة دوما ان تكون اطارا للتحالف بين الأحزاب أو مجالا مفتوحا للتنظيمات السياسية تمارس فيه نشاطها التنظيمي. وحرصت على ضمان صبغتها الخصوصية ومرجعيتها الفكرية وتمسكت باختصاص وظيفتها في التبليغ عن الانتهاكات في مجال حقوق الانسان والدفاع عن مختلف الحقوق الفردية والجماعية لعموم المواطنين بصرف النظر عن اتجاهاتهم الفكرية والسياسية. ويمثل الاعتماد على الموارد الذاتية ركيزة هامة من ركائز الاستقلالية لذلك اكتفت رابطة الأجيال الأولى بمواردها المحدودة وقبلت طوعا ان تنشط في مقرات متواضعة وأن تواجه الخصاصة والاحتياج والاقتراض ورفضت مد يدها للتمويل الحكومي الخارجي معتبرة ان المال السهل من شأنه ان يبتعد بأنشطتها عن طابعها الميداني ليحشرها في أجواء الفخامة المصطنعة. ثم ان المنخرط القاعدي عندما يمول جمعيته فانه يدعم استقلالها لأن حقه على الجمعية في التمويل يكسبه الحق في محاسبتها فإذا خرج التمويل عن ارادته ضعفت المحاسبة وانغمست الجمعية في البذخ الموهوم. وقد تضمنت عريضة 66 وهي لائحة تداولها نواب المؤتمر الخامس نفس هذه المعاني فأكدت على ضرورة تجسيم استقلالية الرابطة على كافة المستويات ومنها المستوى المالي وذلك بالاعتماد على الموارد القانونية وعدم اللجوء الى مصادر تمويل اخرى محلية أو خارجية لما في ذلك من تأثير سلبي على قرار الرابطة ومصداقيتها. كما مثل الهاجس المالي احدى محاور النقاش التي بحثت فيه لجنة النظام الداخلي والهيكلة. فلقد اقترحت اللجنة انشاء آلية قانونية داخلية تضفي على المسألة المالية أكثر شفافية وتدقيق في مسألة التمويل والتصرف المالي سواء في علاقة المنظمة بمحيطها الداخلي أو الخارجي أو في التمويل ما بين هياكلها. ان التمويل مسألة تطرح عديد الاشكاليات فأنصار قبول التمويل الخارجي يعتبرون ان التمويل امر ضروري لقيام الرابطة بدورها في رصد الانتهاكات والتربية على حقوق الانسان ونشر ثقافتها كما يعتبرون ان التمويل لايمس من الاستقلالية وأن الخشية من الموالاة للجهة الممولة في غير طريقها طالما أن التمويل لا ينجر عنه بالضرورة حياد عن التمسك بالمبادئ خاصة وأن غاية الطرف الممول هي خدمة حقوق الانسان في اطار الشراكة بين الدول. ان هذا الرأي لا يمكن ان يحجب الحقيقة بكون قلة التمويل لم تعق الرابطة في الاضطلاع بمهامها بل ان ما وصلت اليه من اشعاع داخلي وخارجي لم يكن مقترنا بما توفر لديها من امكانيات مالية. كما ان التمويل الأجنبي يمثل قرينة على عدم الاستقلالية فلا يخفى أن للدول المانحة مصلحة مؤكدة ظاهرة كانت أم خفية في تمويل بعض المنظمات والتركيز عليها وتتدرج المصلحة من مصلحة اقتصادية مباشرة الى مصلحة بعيدة المدى تتمثل في تحضير التحالف الاستراتيجي المستقبلي لصراع قد لا تبدو ملامحه واضحة الآن مرورا بفرض سلوك حضاري قد لا يتلاءم مع المفاهيم المثالية لحقوق الانسان والمواطنة عبر تمرير نمط تفكير يتمحور حول قبول العولمة والهيمنة وتهميش الوطنية والهوية وصولا الى ابداء الرأي حول اسلوب الحكم وبيان مواصفات «الحكم الأصلح». لكل ذلك رفضت الاجيال الأولى للرابطة كل مصادر التمويل خارج التمويل الذاتي والمشروع. اذ مهما كانت درجة تمسك الجمعية باستقلاليتها فإن الرضوخ لهيمنة الجهة المانحة بصفة مباشرة أو غير مباشرة أمر كبير الاحتمال خاصة اذا كانت الجهة المانحة في حجم مجموعة دولية. فقرينة الاذعان والهيمنة قرينة محمولة على كل جمعية تسمح لنفسها بقبول التمويل الحكومي الاجنبي لذلك وجب الاعتماد على القدرات الدائمة والابتعاد على الموارد الظرفية مع اقرار لاحقية سائر المنظمات المستقلة في تمويل شرعي وطني المصدر على غرار ما أقره القانون لفائدة الأحزاب السياسية والجمعيات ذات المصلحة العامة. ان رفض التمويل الحكومي الأجنبي لا يجب ان يفهم على أنه مس بجوهر العلاقات المتميزة القائمة بين الرابطة والمنظمات غير الحكومية الصديقة المدافعة عن حقوق الانسان والشبكات الدولية ذات الصلة والتي تربطها بالرابطة علاقات تعاون وتنسيق في كل مجالات الدفاع عن حقوق الانسان وفي التمسك بالشرعية الدولية الحقيقيةوبحق الشعوب في المقاومة والتحرير وتقرير مصيرها والوقوف ضد التعصب ورفض منطق القوة والهيمنة وتصدير الديمقراطية والتنديد بالاحتلال والاستعمار والتقتيل والابادة الجماعية والتأسيس لمجتمع دولي متسامح متضامن تعيش فيه كل شعوب العالم في سلم دائمة وعادلة. 2) اللامركزية : تعتبر الرابطة عميدة المنظمات الانسانية في الوطن العربي وفي افريقيا وهي تضم 4000 منخرط ينشطون في 41 فرعا موزعين على كامل البلاد وقد حدد الفصل من النظام الداخلي مهام الفروع فخول لها القيام بكل التدخلات والمبادرة بكل الأعمال دفاعا عن حقوق الانسان واتخاذ المواقف العلنية بشأن كل الاحداث ونشر البلاغات ما لم تتعارض مع مبادئ الرابطة والاعلان العالمي لحقوق الانسان والقانون الأساسي والنظام الداخلي والمواقف المعلنة من قبل الهيئة المديرة. ان سعة مجالات تدخل الفروع في كل ما يهم الدفاع عن الحقوق تدل على تشريك الرابطة لفروعها في جميع اهتماماتها دون استثناء مع الحرص على أن يسود جو من التكامل بين الهيئة المديرة والفروع وذلك باعلام الهيئة المديرة بكل نشاطات الفروع. وقد شدّدت الرابطة في العديد من بلاغاتها على أن الحوار مع السلطة يمر عبر التحاور مع الهيئة المديرة وهيئات الفروع. كما دعا المجلس الوطني المنعقد يوم 15/7/2001 الفروع لمزيد العمل والمثابرة لتفعيل هياكل الرابطة واضفاء الحيوية اللازمة لضمان استقلاليتها واشعاعها وأداء رسالتها في التصدي للانتهاكات ونشر ثقافة حقوق الانسان. انه بالنظر الى أهمية الدور الموضوعي والهيكلي للفروع وتكامله مع دور الهيئة المديرة فلقد حرصت الرابطة على ايلاء تركيبة هيئات الفروع اهتماما خاصا. فلقد شهدت فترات تاريخية متعددة تركيبات وفاقية لهيئات فروع اقترن فيها العمل السياسي بالنشاط الرابطي ويكاد يحصل الاجماع اليوم على ضرورة تجاوز ظروف التأسيس ووضع حد لاقتران العمل السياسي بالنشاط الرابطي. فالرابطة التي نشأت في بدايتها على وفاق بين العائلات السياسية مدعوة اليوم الى وفاق جديد بين مناضلي حقوق الانسان بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية غير أن اعادة هيكلة الرابطة على أسس التميز الرابطي يستوجب السير الرصين في عملية تحديث ترتكز على بلورة مفهوم جديد للعمل الرابطي في اطار احترام القانون الأساسي والالتزام بالنظام الداخلي. ولقد توفقت الهيئة المديرة الى ما لم تتوفق اليها سابقتها من اشراف على تجديد هيئات الفروع. وقد تجددت لحد الآن هيئة فرع كان آخر عهدها بالانتخابات يعود الى 9 سنوات خلت. وقد شملت عملية التجديد فروع جندوبة وباجة وبنزرت والقيروان وسيدي بوزيد وفرعي صفاقس والمتلوي وقفصة وقبلي ومدنين وقابس وسوسة والمهدية والمنستير وماطر ويشاع ان ما تبقى من الفروع سيتم دمج بعضها ببعض بحيث يكون هناك فرع في كل ولاية مما يقلص العدد الجملي للفروع الى 30عوضا عن 41. ان الفروع التي انشأت طبقا للفصل من النظام الداخلي لا يمكن ان تدمج أو تحل لمجرد حوصل نقص في عدد منخرطيها ذلك أن العدد الأدنى للمنخرطين المقدر ب50 منخرطا لا يحتسب الا عند التأسيس بصريح الفصل المذكور ثم ان النقص الظاهر في عدد المنخرطين يمكن أن يكمل بانخراطات جديدة لمن تتوفر فيهم الشروط وبعيداعن الاعتبارات القانونية فان تبرير دمج الفروع بتعلة أن وجود فرع واحد في كل ولاية من شأنه ان يضمن الفاعلية في الاتصال بالسلطة الجهوية ويسهل عملية تمكين كل الفروع من مقرات هو تبرير غير صائب ذلك أن الرابطة مدعوة لا الى تقليص فروعها بل الى الابقاء عليها ان تعذر في الوقت الحاضر انشاء غيرها. فقيام الرابطة بوظيفتها في رصد التجاوزات والدفاع عن الحريات ونشر ثقافة حقوق الانسان وتعبئة الرأي العام الوطني وتوعية المواطنين وتنمية حسهم المدني تستوجب مزيدامن التفعيل وابقاء الرابطة لسائر فروعها ثم ان التركيز على مراكز الولايات فيه تهميش لبقية الجهات والحال ان المواطن في كل مكان جدير بالاحاطة لأنه صاحب استحقاق في الاستفادة من الحياة الجمعياتية في مكان تواجده. كما ان تبريرالدمج بضرورة عرض الاشكاليات التي تصل الرابطة على السلط الجهوية بقصد حلها هو تبرير نسبي طالما ان الحوار المؤسساتي يمكن ان يتم ايضا مع السلطة المحلية بل ان السلط المحلية تكون أقرب الى حل الاشكال المطروح مما يجنب عناء التنقل الى مركز الولايات وهكذا نتبين أن التفاضل بين الفروع على أساس جغرافي من شأنه ان يشرع لمركزية لا جدوى للرابطة منها. أما عن ضمان الهيئة المديرة لمقرات مجهزة لكل فروعها فان اعتماد التمويل الذاتي يمكن ان يغني عن هذه الكلفة. ان رفض الدمج من منطلقات مبدئية ومن خشية ان ترتكز اسبابه على نفس معايير التأسيس التي كانت محل انتقاد لكونها ظرفية أو سياسية أو حتى شخصية لا ينفي المخاوف المشروعة لمخاطر الاحتواء لبعض الفروع أو توظيفها أو تهميشها لذلك وجب احترام استقلالية الرابطة وخصوصية دورها وتحتم على كل منخرطيها تثبيت صفاتهم داخلها فقط كمدافعين عن حقوق الانسان دون اعتبار لانضباطهم الحزبي أو السياسي. ان ما بلغته الرابطة من اشعاع وحضور داخلي وخارجي ومكانة متميزة في المجتمع وتقدير تاريخي لدورها النضالي لايمكن أن يزيدها الا تواضعا وتماسكا بين مناضليها وهياكلهالرسم مستقبلها وآفاق تحديثها وتثبيت وظيفتها عبر فتح كل فضاءات النقاش والحوار والعمل وبالاقتناع بأن المسائل الخلافية لايمكن ان تتحول أبدا الى خلاف وان الرجوع الى ثوابت الرابطة ومرجعيتها كفيل بإنارة السبل.