تتأكد يوما بعد يوم القيمة الأساسية للإعلام وما يقوم به في خلق رأي عام وتشكيل وعي الانسان حتى قيل : «الانسان ابن اعلامه» فهو القادر على ان يجعل من الكذب صدقا ومن الصدق كذبا، وقد صار سلاحا فعّالا استعملته القوى المهيمنة لتكريس هيمنتها على العالم واستغلال خيراته وتويجه سياساته المختلفة بكل الوسائل وهذا ما أفرز (مقابل الاعلام المهيمن) اعلاما تابعا انعكاسا لموازين القوى وصراعاتها. ومما لا شك فيه ان من كان تابعا سياسيا هو تابع اعلاميا، والعكس صحيح، وبما ان الدول العربية (ولا نقول العالم العربي الذي لا وجود له في الواقع) تعيش في تبعية اقتصادية وسياسية (وربما صارت اليوم مناخية) فإن اعلامها (إن كان لها اعلام؟) غارق في التبعية في الوسائل والمضامين والأساليب، حيث لم تشفع له لغته العربية التي ينطق بها ان تجعله عربيا لأن كثيرا من الدول غير العربية بعثت لها قنوات فضائية تلفزية وجعلتها تنطق بالعربية للمتكلمين بها لتوجيههم لما تريد الوصول اليه منهم وغسل أدمغتهم مما تبثه لهم «قنواتهم» من سموم رجعية ارهابية، وبهذا تقوم ب»تأهيلهم» للإصلاح السياسي والديني والديمقراطي والمدني فيقبلون ان تكون «اسرائيل» دولة شقيقة (على حد تعبير دريد لحام في مسرحيته : على نخبك يا وطن) في الشرق الاوسط الكبير،وان أي مقاومة (أو محاولة لجعل خيرات البلاد بيد شعبها) لن تكون الا ارهابا، لا يجد من «الشرعية الدولية؟» الا الحرب المفتوحة المستمرة.كل هذه المضامين تروّج لها وسائل الاعلام المهيمنة بطرق ووسائل منمقة، جذابة، تخلط السم بالدسم، وحسب الكيفية التي كان يرددها بيزمارك : «اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب حتى تجد من يصدّقك» او كما في مخزوننا الشعبي : «الدوام ينقب الرخام». ومن مظاهر تبعية الاعلامات العربية على سبيل المثال لا الحصر، ما يتردد فيه من مصطلحت أقل ما يقال عنها أنها مضحكة، وشر البلية ما يضحك : قضية فلسطين، وهي قضية صراع فلسطيني ضد الهيمنة الاستعمارية الصهيونية (التي هي في أهدافها ومنطلقاتها حركة عنصرية) لا تتحدد بالدين ولا بالجنس. صارت هذه القضية تحمل أسماء متعددة مثل قضية الشرق الاوسط، او الصراع العربي الاسرائيلي.. او معالجة العنف المتبادل بين العرب واليهود في قطاع غزة والضفة الغربية.. الخ.. وما يرتبط بهذا المنحى من دعوة الى «التعقل» و»نبذ العنف» ومقاومة الارهاب. فهل من المعقول والتعقل ان يطالب المذبوح بالتسامح والتعقل؟ هل معناه ان يمد عنقه دون ان يتعب الذابح فلا يصرخ ولا يتوجع ولا يزعج ذابحه بمنظره المخيف ولا ينتفض ولا «يتصكك» ولا يسمح لدمه ان ينزف، وإن نزف فلا يكون أحمر، بل يجعله أبيض او بلا لون ولا رائحة؟ إن التعقل، بالنسبة لهذا الذابح ان يتمكن من ذبحه بيسر وسهولة دون جلبة وبسكين حادة وأعصاب باردة ترافقها ابتسامات رحيمة وودودة وانسانية ارضاء لراحة «الشرعية الدولية» والقائمين عليها بالفهم والرعاية والحراسة (لله في سبيل الله). المقاومة الوطنية (في أي مكان يعاني الانسان قهرا استعماريا واحتلالا مذلا) لا يعبر عنه مقاومة بل «عنفا متبادلا» او عصابات مسلحة، او اعمال العنف، والمقاومون مسلحون مجهولون. فالمقاومة العراقية (ومثلها المقاومة الافغانية والفلسطينية وغيرها) هي في نظر القوى المهيمنة اعمال عنف والمقاومون مسلحون مجهولون. واذا كان هذا مفهوما عند القوى الاستعمارية وتردد في اعلامها خدمة لمصالحها، فكيف يردد الاعلام العربي هذه المصطلحات؟ واية مصلحة له في ذلك غير ارضاء تلك القوى الباغية المتسلطة؟ أم هو يخافها فيردد ما تمليه عليه دون وعي؟ ثم أليس القانون الدولي يقر بشرعية المقاومة للاحتلال ويدعو المنظمات الدولية لتقديم المساعدة للمقاومين؟ أم نسكت عن السارق ونشنّع بالمعتدى عليه ونحاصره عوض ان نتصرف معه حتى بأضعف الايمان، ما دمنا غير قادرين على مساندته باليد او باللسان؟ هل نحن الآن بعارنا وذلنا وضياعنا وبعيدا عن المزايدات والمهاترات والمركبات وعواطف الشرق الاوسط والعنتريات والمتنبيات والفرزدقيات (ومع الاعتذار الكامل لكتب التاريخ والادب والجغرافيا، والأناشيد والأغاني الوطنية) أقول : هل نحن «خير أمة» او حتى مجرد أمة، او مشروع أمة؟ أليس من الواجب علينا ان نميز بين المعتدي والمعتدى عليه، وبين العنف والرد عليه، وبين السارق والمسروق وبين الضحية والجلاد، وبين الاعمال الفردية الطائشة والاجرامية وبين المقاومة الوطنية، وبين الارهاب والدفاع المشروع عن النفس والكرامة الوطنية؟ ونحن إن نجحنا في هذا التمييز وقدمناه للناس كما ينبغي نستنتج واقعا هو ان ما تمارسه العسكرية الصهيونية في فلسطين وجيوش الاحتلال في العراق وأفغانستان هو أقسى أنواع الارهاب، ونحن ضده بكل الوجوه والاشكال، والوقوف ضد الارهاب، غاية ووسيلة يقتضي منطقيا وشرعيا الوقوف ضد الأسباب المنتجة له والتي من أهمها التلاعب بالشرعية الدولية والكيل بمكيالين وقهر الشعوب ومحاصرتها والدفع بها للأخذ ب»حلول اليأس». إن ما يقوم به الفلسطينيون ضد الاعتداءات الاسرائيلية عليهم هو مقاومة مشروعة تقرها الاديان والقوانين والاعراف الدولية والانسانية، وهم أعرف الناس بطرقهم في الرد والمقاومة وما على الرافضين لها الا دعوة المعتدي الى نبد العنف والجلوس الى طاولة المفاوضات للوصول الى سلام الشجعان. وأن جدار الفصل العنصري الذي تقيمه اسرائيل في الاراضي الفلسطينية هو جدار عنصري استعماري وليس من الحقيقة في شيء أن يسمى كما تريد له اسرائيل ان يكون ويتردد في اعلامنا «الجدار الامني». كما ان الهجومات على المستعمرات (وليس مستوطنات مثلما يتردد) الصهيونية في فلسطين لا يمكن اعتبارها هجومات على المدنيين لما لتلك «المستعمرات» من صبغة احتلالية عسكرية ولأن الجندي إن نزع بزته العسكرية واحتفظ بسلاحه العدواني لا ينفي ذلك عنه حقيقته العسكرية والعدوانية. وإن ما يقوم به العراقيون في بلادهم لا يخرج عن اطار المقاومة المشروعة حيث جاءهم المعتدي يحتلهم ويقتل أبناءهم، بحجة القضاء على أسلحة الدمار الشامل وتحرير الشعب العراقي من النظام القمعي الديكتاتوري ولم يذهب العراقيون اليهم في أمريكا أو أستراليا أو أوروبا ليقتلوهم. وإن احترقوا أو ماتوا في العراق فالذنب ذنب حكامهم وعليهم ان يحاسبوهم لأنهم ألقوا بهم في الحريق لإحكام سيطرتهم على الثروات العراقية. إن الدور التربوي الأساسي للإعلام يتمثل في التوعية والتنوير. وكل اعلام لا يقوم بهذا يكون اعلاما «لايديولوجيا» «تمييعيا تبليديا» خائنا. والاعلام العربي اذا أراد ان يكون عربيا بحق (وحقيقيا) محترما ومقبولا ومسموعا ومشاهدا ومقروءا، فما عليه الا ان يستفيق من سباته وينفض عنه غبار التبعية و»الببغائية» ويتفهم واقع شعوبه، ويعمل للمحافظة على استقلاليته الايجابية فيسمي الاشياء بمسمياتها كما هي، لا كما يريدها المهيمنون الغاصبون للتضليل والمناورة والخداع. وكم نحن في حاجة ماسة وكبيرة لإعلام يفتح عيوننا على نقائصنا ويتلمس معنا طريق الخلاص نحوالتمدن والتقدم والديمقراطية! ولمثل هذا فليعمل المخلصون الصادقون إنارة، لا إثارة. محبة، لا حقدا.