ترك وزير الخارجية التونسي أحمد ونيس تساؤلات في صفوف ممثلي الصحافة العربية والأوروبية، في بروكسيل، عن طبيعة التحول التاريخي الذي شهدته تونس منذ تفجر الانتفاضة، على إثر استشهاد الشاب محمد البوعزيزي، حتى رحيل الرئيس السابق وعائلاته. ونقل مراقبون حضروا المؤتمر الصحفي المشترك بين الوزير احمد ونيس ومنسقة السياسة الخارجية الأوروبية كاثرين آشتون يوم الأربعاء الماضي في بروكسيل أن الأول ذكر بأن ما حدث بتونس «ليس ثورة» وانما تحول نحو «الديمقراطية والحكم الرشيد». وذكر الوزير في لقاء صحفي أجري معه في مقر السفارة يوم الخميس الماضي بأن ما حدث «ليس ثورة بل امتداد» لمراحل بناء الدولة الحديثة قبل مرحلة حكم بن علي. يحق للوزير ونيس النظر إلى الانتفاضة التي قلبت النظام من زاوية خلفياته التاريخية وتجربته الطويلة في الحقل الديبلوماسي خاصة إذا طلب رأيه في مؤتمر أو في حلقة نقاش. وسيكون النقاش مثيرا إذا طرح السؤال على أساتذة العلوم السياسية والمؤرخين حول ما إذا كانت هبة الشعب وفوزه في 14 جانفي ثورة حقيقية أطاحت بالحزب الحاكم منذ عقود وقلبت البنية الفوقية أم هي انتفاضة عفوية وعارمة أطاحت بنظام أمني متآكل جراء استشراء الفساد.. قد تتفاوت التفسيرات لكن سيلتقي الأكاديميون حتما حول مفهوم التحول التاريخي العارم وأنه لم يكن «امتدادا» مثلما رأى الوزير محمد ونيس مهما حاول التملص من حقبة حكم بن علي ووضعها بين هلالين. الوزير عني في اللقاء معه بأن الدولة التونسية الحديثة بنيت غداة الاستقلال بعد أن تزودت بدستور حديث يساوي بين المواطنين رجالا ونساء واستثمرت الجزء الرئيسي من قدراتها في القطاعات الاجتماعية واعتمدت الليبرالية الاقتصادية قبل «الانقلاب الطبي» على الرئيس بورقيبة. واستكملت تونس مطلع هذا العام «الليبرالية السياسية». ويغفل هذا «الامتداد» الذي قصده وزير الخارجية التضحيات الكبيرة التي قدمتها مختلف فئات المجتمع على مدى عقود وخاصة شهداء ثورة النار والكرامة بين ديسمبر 2010 وجانفي2011. الإشكال لا يتعلق بنقاش لغوي بل بجوهر منظور المسؤول التونسي لعمق التحول الذي شهده المجتمع وتطلعاته إلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الفرص بين الجهات ومكافحة الفساد وضمان الحرية، خاصة إذا كان المسؤول مكلفا بمخاطبة الشركاء والرأي العام الأجنبي. الحقيقة الملموسة اليوم في الساحة الأوروبية أن التونسيين حققوا إنجازا «مشرقا»، والعبارة لديبلوماسي أوروبي، يلهم الشعوب الأخرى في المنطقة العربية وخارجها. أجيال التونسيين من الشباب هزموا الرقابة وتواصلوا في ما بينهم ونقلوا إلى العالم حقيقة انسانيتهم وتوقهم إلى الحرية مثل شباب العالم. وهذه الصورة ثابتة اليوم لدى المراقبين والديبلوماسيين. كما غلب عطاء الشباب وزغاريد النساء في تالة والقصرين وسيدي بوزيد ومكثر وسليانة وغيرها من مناطق الجمهورية آلة القمع وجنون القناصة، أمام أنظار العالم. وهذا المعطى الآخر الذي شاهده العالم ويردده الأوروبيون حول شجاعة هذا الشعب. وتوجت مشاهد الثورة بدوي عبارة «الرحيل» أمام وزارة الداخلية من قبل كافة فئات المجتمع في اتجاه بن علي، حيث وقف الشاب والمسن والرجل والمرأة والعامل والمثقف والمحامي والطبيب أمام قلعة الاستبداد، إلى أن جاء النبأ السار ظهر يوم الجمعة 14 جانفي 2011. وهذا المشهد سجله العالم وأشاد به الجميع وقال عنه مسؤولون في المفوضية والمجلس الوزاري الأوروبي، إلى المحرر، «إنها ثورة مشرقة وسابقة في المنطقة، بل هي ذات أبعاد كونية». ورأى الجميع أن الأحزاب السياسية ركبت القطار وهو يسير ولم تكن تتوقع تفجر الثورة والأمل في أن يحميها أهلها من محاولات الالتفاف على أهدافها النبيلة: العدالة والحرية ومكافحة الفساد. هذا المشهد المشرق والبعد الكوني للثورة التونسية يثير اليوم التضامن والتقدير في صفوف الأوروبيين بعد أن كانت سمعة التونسي شوهت في العقود الماضية. وأوصت القمة الأوروبية يوم الجمعة الماضي منسقة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي عدم التأخر عن تقديم خطة دعم مشاريع الإنماء والإصلاح السياسي في تونس. ويتوقع خبراء أن يتجاوز جرد خسائر الاقتصاد التونسي 5 مليارات دولار. ويعي المسؤولون الأوروبيون حاجة تونس إلى مساعدات مالية عاجلة وخبرات كافية في مجالات الإصلاح السياسي والقانوني وهم ينتظرون الخطة التي سيعرضها وزير الخارجية ونيس وزملاؤه على نظرائهم في العواصم الأوروبية، ويؤمل أن يتحدث ونيس عن الثورة، لأن التونسيين يرونها كذلك.