بقلم : محمد السليمي (أستاذ مبرز أول في التاريخ) حدثت الثورة في تونس، ثم امتد لهيبها الى مصر فليبيا واليمن والبحرين وبدرجة أقل الى حد الآن في الأردن والجزائر والمغرب وعمان. أضطر بن علي الى الفرار وحسني مبارك الى التخلي عن السلطة وفي البلدين فان النظام لم يسقط تماما، ونعني بالنظام: الطبقة الحاكمة المتكونة عادة في البلدان العربية من مجموعات تربطها بالحاكم. علاقات قرابة دموية تمثل عائلة الحاكم نواتها الرئيسية وتتسع لتشمل عددا كبيرا من العائلات... علاقات متشابكة من المصالح الاقتصادية يوظفها الحكام وأبناؤهم وعائلاتهم لتغطية أنشتطهم «المشبوهة» ويوظفها بعض رجال الأعمال والانتهازين لمزيد الاستثراء تحت حماية سلطة الدولة. الايدولوجيا التي برر بها النظام سياسته الداخلية والخارجية والتي ترتكز على: «نظرية المؤامرة» و«الخطر المحدق بالبلد» و«الأعداء المتربصون به» وطبقا لهذه النظرية فان أي انتقاد يوجه للسلطة من الخارج يعبر عن عداء أما «امبريالي صهيوني» ضد العروبة والاسلام إن كان موجها من الغرب أو« رجعي» ضد الحداثة إن كان موجهامن بلدان عربية وإسلامية ومن نفس هذا المنطلق فان أي انتقاد من الداخل( من أحزاب أن «نخب» أو أشخاص) يمثل خيانة و«استقواء بالأجنبي» وتشن عليه حملة تشويه فظيعة» توظيف «الجهل» والأمية وتدني الأوضاع الاجتماعية وخاصة في الأرياف والأحياء الشعبية بالمدن لجبر الناس الى الانخراط في الحزب الحاكم باعتباره الوسيلة الوحيدة» لتحسن مستوى العيش» وفي أغلب الأحيان لتفادي« خسارة لقمة العيش» وفي نفس الوقت يتم تهميش وإضعاف مختلف المنظمات والهياكل التي تعبر عن المجتمع المدني . تغلغل الحزب الحاكم في مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة وفي مختلف الأشكال التعبيرية الفنية والثقافية والرياضية وفي مؤسسات الإعلام بمختلف أصنافها، من خلال تنظيم هرمي متقن يمتد عادة من الرئيس، فالوزراء والموظفون السامون والكبار ورجال أعمال مرتبطين بهم وأمناء عامون لأحزاب ومنظمات معارضة شكليا في المستوى الأعلى الى المديرين وعدد كبير من الإطارات المركزية والجهوية في المستوى الأوسط الى مجموع «الزعامات» المحلية في المدن والقرى والأحياء في المستوى الأدنى، وتستفيد مختلف هذه المستويات من انتمائها» للحزب الحاكم اقتصاديا وسياسيا ومعنويا في علاقاتها مع الشعب. ماذا حدث اذا في البلدين في ضوء سقوط الرئيس وعدم سقوط النظام؟ صدمة(choc) الفرح الهستيري بسقوط رأس النظام(الرئيس وعائلته) الذي يعبر أولا عن حالة الاحباط واليأس التي كانت تسود الشعوب من«استحالة» التخلص من حكام يراكمون سنوات الحكم وينقحون الدساتير، وثانيا عن«سرعة» الانهيار الذي يتناقض مع ما ارتسم في مخيلة الشعوب من القدرة القمعية لاؤلئك الحكام، وثالثا هو فرح هستيري يرتبط «بوعي» مختلف الأطراف بأن مساهمتها مهما كانت فاعلة لم تكن العامل المحدد لنجاح الثورة وأن الجانب«العفوي» و«التلقائي» ودور الانترنات و«شباب الفايس بوك» و«الفضائيات» ربما يكون العامل الأهم في سرعة تهوي الحكام. صدمة ما بعد سقوط الحكم الذي تولد عن الانتباه الى أن فرار الرئيس أو تخليه لا يعني سقوط النظام وهو ما أدى في البلدين الى عودة الشارع الى «الغليان» مطالبا بالقطع مع النظام السابق ورفض الحكومات المؤقتة والمطالبة بتصفية الحزب الحاكم وتطهير مختلف المؤسسات والهياكل وخاصة الدعوة الى انتخاب مجلس تأسيسي. كيف يمكن تجاوز ذلك المأزق إذا؟ البوادر تبدو مشجعة على الأقل في المستويات التالية: فاعلية مكونات المجتمع المدني خاصة تلك التي كانت عرضة للإقصاء من أحزاب ومنظمات نقابية وحقوقية التي يبدو أنها تجاوزت حالة «الصدمة» وأصبحت تتزعم دعوات القضاء على الأنظمة السابقة والتأسيس لأنظمة ديمقراطية. الوعي السياسي الذي اكتسبه الشبان من طلبة وتلاميذ وحتى من الشرائح محدودة التعليم الذي جعلهم ينخرطون في مختلف الأشكال النضالية وان كان ينقص ربما مزيد الالتحام بالأطراف المذكورة أولا. الثقة التي تولدت لدى الشعوب(وهي مستمدة من قدرتها على الإطاحة بأولئك الحكام المستبدين) من أنهم لن يسمحوا مستقبلا بأن يتكرر ماحدث ( الاستبداد) وأن هذا قد يؤسس فعلا الى قطيعة نهاية مع ماضي الاستبداد والقمع، باعتبار أن التغيير الذي حدث للعقليات أهم من كل أشكال التغيير الأخرى.