وسط جو غائم وكئيب ، انطلقت عشية السبت الماضي فعاليات الدورة 29 من مهرجان ايّام قرطاج السينمائية ، موحية بانها قد تكون الدورة الاخيرة في شارع الحبيب بورقيبة الذي شهد مولد هذه التظاهرة وتوهجها وشعبيتها بالخصوص في الشارع التونسي وحتى العربي . انطلقت احتفالات الدورة في شارع الحبيب بورقيبة الذي خاله الشاهدون على بعث المهرجان وتطوره، شارع المهرجان او شارع السينما الخالد ، لتنتهي في الاخر في شارع محمد الخامس حيث مدينة الثقافة التي ابتلعت على ما يبدو كل شيء يوحي بالحياة الثقافية في البلاد . ماذا بقي من مظاهر ايام قرطاج السينمائية في شارع بورقيبة باستثناء ذلك النزل الذي فقد بدوره روح المهرجان بمجرد هبوب اول عاصفة سوداء بعد 14 جانفي 2011 فضلت ادارته بعدها الانحناء للعاصفة وذلك بغلق قاعته « سينما أفريكا» التي منحته لدورات عدة شرعية احتضان ضيوف المهرجان وجزء من أنشطته . فقدت قاعة الكوليزي امتياز الاحتفالات التي كانت تفيض على شارع الحبيب بورقيبة والانهج المتفرعة ، مضاعفة من حيويتها وتوهجها ، وخفتت انوار نزل الانترناسيونال الذي كان القلب النابض للمهرجان باستضافته غالبية النجوم والناشطين في مجال السينما ، وأصيبت قاعة البرناص بشلل جزئي ، ووئدت قاعة الفن السابع في مدخل نهج مرسيليا ، وتحول نهج ابن خلدون الذي شهد العصر الذهبي لايام قرطاج السينمائية بقاعته الشهيرة «هاني جوهرية» ( المونديال حاليا ) وقاعة abc ودار الثقافة ابن خلدون التي شهدت اسخن النقاشات السينمائية ، الى ما يشبه انهج الأحياء الشعبية المهمشة … ماذا بقي من مظاهر المهرجان وسط شارع الحبيب بورقيبة باستثناء هذه اللوحة السوداء القاتمة التي حتى وان حاول المشرفون على المهرجان تسريب قليل من الضوء داخلها في هذه الدورة ، فإنها سائرة حتما الى الاندثار . لم تخف مدينة الثقافة رغم كثافة الأنوار و«النجوم» وطول البساط الأحمر الذي امتد الى رصيف شارع محمد الخامس ، وحشة المشهد واللوحة القاتمة التي بدا عليها شارع بورقيبة في تلك الليلة الممطرة . حتى «النجوم» و«النجمات» لم يجدوا من يتفرج عليهم باستثاء قلة قليلة جدا من الجمهور أرهقها المشي من شارع بورقيبة الى مدينة الثقافة التي بدت عابسة في وجوههم وكأنها لا تود ان يقترب منها احد . قد تبدو اللوحة موغلة في القتامة وربما مناقضة لما تابعه المشاهدون على شاشة التلفزة في تلك الليلة من انوار ساطعة ونجوم متألقة وابتسامات واسعة ، ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما يرويها كل من تخلف قسرا عن حفل الافتتاح وخصوصا الفنانين والعاملين في قطاع الثقافة الذين تم إقصاؤهم او تناسيهم ربما لعدم انسجامهم مع هيبة وبروتوكول مدينة الثقافة . مدينة الثقافة إنجاز ثقافي عظيم ولكن المشرفين عليها وفي مقدمتهم وزارة الشؤون الثقافية وبلدية تونس وجدوا فيها السبب الكافي لتهميش شارع بورقيبة وإفراغه من كل حياة ثقافية بما فيها ايّام قرطاج السينمائية ، ويكفي ان نتوقف عند قاعات السينما التي اغلقت ابوابها او غيرت نشاطها على غرار سينما أفريكا والشانز إليزي وقاعة الفن السابع ، لندرك ان تحويل احتفالات ايّام قرطاج السينمائية وغيرها من التظاهرات الثقافية من شارع بورقيبة الى مدينة الثقافة في شارع محمد الخامس ، عملية ممنهجة وغير بريئة . ستنتهي ايّام قرطاج السينمائية وتنتقل كل الأنشطة الثقافية الى مدينة الثقافة ، ويعود شارع بورقيبة الى المشهد او اللوحة التي رسمناها في الاول ، قاتمة وموحشة.