اتصل بوضع ابي عبد الله المقري وضع شرقي تأثر بحركة تجديدية كبرى في نطاق المذهب الحنبلي ، وهي الحركة التي قام بها شيخ الاسلام ابن تيمية ودرج عليها من بعده تلميذه ابن القيم. وقد انبنت هذه الحركة التجديدية كما لا يخفى على نقد موضوعي منهجي لعلم الاصول. وهو تابع للنقد العميق والنقض الشديد الذي نقد به شيخ الاسلام ابن تيمية علم المنطق ونقضه على منهج الغزالي في كتاب « تهافت الفلاسفة «. ثم اخذ ابن القيم يقرر قواعد ليري الاستغناء عن القواعد التي ولدها علماء الاصول من علم الكلام. فجعلها قواعد مستنبطة من روح الشريعة ترجع الى المبادئ الكلية على النحو الذي كان الفقهاء المتقدمون يتكلمون عليه ويقعدون القواعد الكلية الجامعة التي ترجع في كثير من المسائل الى الفاظ نبوية شريفة. وعلى ذلك درج تلميذه ابن القيم. وقد نزعا معا الى الجمع والتقريب بناء على ما تحكم في منهجهما من الثورة على التقليد والدعوة الى اطراح العصبية المذهبية. وجعل الاجتهاد مباشرة متصلا اتصالا جديدا بمنابع التشريع الاولى على النحو الذي دعا اليه الشيخ ابن القيم في كتاب « اعلام الموقعين « لمقاومة التقليد وتقرير وجوب الاجتهاد. وفي اواخر القرن الثامن ظهر بالمغرب الامام ابو اسحاق الشاطبي فشعر بالفراغ الذي يبدو في الافق الاسمى من المعارف الفقهية وهو الفراغ الذي اتجه الى سداده من قبله شيخه المقري ولكنه لم يأت فيه بالسداد اللازم فجاء الشاطبي يبني على طريقة استاذه المقري طريقة جديدة تتدرج من القواعد الكلية والجزئية التي وضعها المقري الى عوالي القواعد العامة التي اراد ان يجعلها قواعد قطعية. محاولا ان يخرج بعلم اصول الفقه عن كونه علما ظنيا. اذ يرى ان معنى الاصول معنى « الاصلية « يتنافى مع الظنية. وبلغ حتى انتهى الى الكليات المتفق عليها بين جميع الشرائع فوضع بذلك منهاجا نقديا لعلم اصول الفقه فجاء منهاجه النقدي متجليا في القسم الاول من كتاب « الموافقات « للشاطبي الذي سماه « المقدمات « والذي بحث فيه في المنهج الذي ينبغي ان يكون عليه اصول الفقه ساميا الى درجة الامر القطعي لا الامر النظري. ثم اتى بكتاب « الاحكام « الذي لم يأت فيه بشيء جديد على ما عند علماء الاصول الا ما اتى به من عمق النظر وسمو البيان. ثم جاء في القسم الثالث الذي هو كتاب « المقاصد « بما يعتبر عملا بنائيا مكملا للنقص الذي كان باديا في علم اصول الفقه حيث انه قرر المقاصد الشرعية على صورة منهجية جامعة يحاول بها دائما السمو الى المقام الاعلى الذي هو مقام الاتفاق على المبادئ القطعية. واما في القسم الرابع وهو قسم الادلة والقسم الخامس وهو قسم الاجتهاد فانه قد رجع الى النطاق الضيق من علم اصول الفقه الذي كان ينتقده اولا في مقدمته فذهب يساير علماء الاصول بما امتاز به من نظر عميق وبيان رفيع ولكنه لم يأت في جوهر هذين القسمين الرابع والخامس بشيء جديد. فالمهم من كتاب ابي اسحاق الشاطبي انما هو كتاب « المقاصد « الذي هو الكتاب الثالث. وهو الذي يعتبر الشاطبي فيه قد وضع بالمعنى الصحيح علما جديدا هو علم المقاصد كما سماه او « علم مقاصد الشريعة «. فسما به الى النظريات العامة كما هو شان كل علم مستقل ، وبين ماهية الموضوع الذي هو التشريع باعتبار مقاصده الكلية الجامعة. الا انه لم يتمم الاستقواء الجزئي الذي يرجع الى تفصيل تلك القواعد على ابوابها ، كما حاول من قبله ان يفعله شيخه ابو عبد الله المقري وعلى كل حال فان ما أتى به الامام الشاطبي من هذا يعتبر عملا لا نظير له لانه اتى بشيء كانت طلائعه الاولى او بوارقه الاولى موجودة في بعض كتب الفقه لا في كتب الاصول فاخذها ليصلح بها النقص البادي في الفقه لا في اصول الفقه وليوجه علم الاصول توجيها جديدا بحسب غاياته ومبادئه ومناهجه. ولكنه لم يفصل تلك النظريات تفصيلا وليس من شأن الذي يضع الاصول لعلم من العلوم ان يتولى هو تفصيلها لان ذلك يبقى للذين يأتون من بعده. والواقع ان هذا الوضع العجيب وهو كتاب «الموافقات» للشاطبي قد بقي منحازا. ليس هو من الفقه وليس هو من اصول الفقه. وبقي اثره اثرا محدودا فلن تتوفر عليه العناية ولم يشرح ولم يفرغ عنه، ولم يدرس ولم يخدم. وانما اعتبر كتابا من كتب توسيع الثقافة بالمطالعة. يتبع