هل كان تأميم نفط العراق ثورة؟ ان شعار التأميم شعار شائع بل ان (مصدق) رفعه وحاول ان ينفذه في ايران عام 1950 ومع ذلك وعلى الرغم من ان صدام حسين نفسه يقول (ان الاول من جوان، لم يكن ثورة بحد ذاته، وإنما كان جزءا من ثورة وعملا منسجما مع مفاهيمها ومتصلا بمسيرتها بل كان ضرورة من ضروريات هذه المسيرة، فإن المسألة هنا لا تتعلق بفكرة التأميم في حد ذاتها او بشعار تحرير الثروات النفطية كشعار مجرد، وإنما تتعلق اولا – وربما في الاساس بطبيعة (العقل السياسي) و(السلوك السياسي) اللذين كانا وراء فكرة التأميم وبلورتها ومتابعتها وإحكام قيادة عمليتها ووضعها موضع التطبيق والوصول بها في النهاية الى النجاح. فها هنا يكمن الفارق الجوهري بين عملية تأميم وعملية تأميم اخرى اجهضت واختنقت وماتت في مهدها بل ربما يكمن ايضا فارق اخر قد لا يقل عن ذلك اهمية، وهو ان التأميم هنا قد حدث بتخطيط مسبق وبتدبير جرى الاعداد السياسي والاقتصادي له قبل وقوعه بسنوات ولم يحدث كرد فعل عنيف – مهما انطوى رد الفعل ذاك على موقف ايجابي في بعض العمليات التأميمية السابقة عليه في غير مجال النفط .ولا شك ان التأميم ذاته في مجال النفط بالتحديد في ظروف تلك المرحلة وفي ظل ازمة الطاقة العالمية وجوع الامبريالية النهم لكل ما يتعلق بالنفط يحمل اكثر من دلالة لا على شراسة المعركة وضراوتها ضد الامبريالية فحسب وإنما على مدى الجرأة الثورية والحنكة القيادية في الممارسة السياسية التي امتاز بها (العقل السياسي) في الثورة العراقية انذاك في وقت تسلم فيه زمام القيادة و(لم تكن لديه معلومات عن النفط)و(وبالتأكيد لولا نجاح التطبيق كما يقول صدام حسين ولو كانت النتيجة غير انتصار مارس – وهو التاريخ الذي سلمت فيه الشركات بقرار التأميم – لو حدثت كارثة مالية او نتائج كالتي اصابت التجارب السابقة لكان حديث الكثيرين عن التأميم مختلفا. فيما قبل التاميم وبعده كان (العقل السياسي) حكيما في نظرته بغير ضعف او تردد جريئا الى حد الاقتحام في مسلكه دون ان يدفعه ذلك الى الانزلاق في منحدرات المغامرة وفي النظرة والسلوك معا كان – كشأنه دائما – يحسب بتوازن ويدرك بشمول وينهج بتكامل. ان طارق عزيز يعبر عن هذه المعاني في نصه السابق قائلا : لقد وعت قيادة الثورة اهمية عنصر الوحدة الوطنية ووحدة الفصائل التقدمية في المعركة من اجل التحرر والبناء وعملت لتوفيره قبل التأميم وبعده ووعت اهمية عنصر المشاركة الشعبية في اية معركة وطنية فحملت الجماهير مسؤوليتها قبل التأميم وبعده، ووعت اهمية البعد القومي للمعركة فلم تطرحها مجابهة قطرية بل معركة قومية ووعت اهمية التحالف مع قوى الثورة العالمية والمعسكر الاشتراكي في مقدمتها فوثقت هذا التحالف ووعت عنصر التناقض والتنافس بين المصالح الغربية وعرفت خصائصه وأبعاده وكيفية الولوج الى داخله فاستخدمته بذكاء وكفاءة دون ان تتنازل عن خطها الثوري ومواقفها المبدئية ووعت اهمية الادارة الحسنة والتقنية الناجحة وغيرها من العوامل في انجاح معركة من هذا النوع وأعطتها ما تستحقه من الاهتمام ووعت وبدرجة عالية من الحساسية اهمية عنصر الحزم وعدم التردد في معارك من هذا الطراز فظلت ثابتة الاقدام حتى في احلك الساعات وأشدها إثارة للقلق فكان لها النصر. عندما تم التأميم ارسلت القيادة العراقية واحدا من اعضائها الى الاتحاد السوفييتي وهناك التقى بالرئيس السوفييتي حينذاك فبادره (بودجرني) قائلا: (لقد تعرضتم لمصالح الدول الكبرى) فرد عليه عضو القيادة العراقية بهدوء وثبات : ما فعلناه لن نتراجع عنه. والواقع ان هذا الثبات الذي يعكس ثقة العقل السياسي في صحة قراراته ومبدئيتها ورسوخها الجماهيري هو وحده الذي يستطيع في النهاية ان يكسب الصداقة الحقيقية حتى مع الدول الكبرى ويحقق ديمومتها بجدارة ولعلنا نذكر هنا فيتنام ايضا فما اكثر ما تلقى قادتها (النصائح) الرفاقية بالدخول في مفاوضات مع الامبريالية الامريكية لوقف الحرب وحقن الدماء والوصول الى حل مرض للطرفين ومع ذلك فان الثبات الراسخ الذي ابدته فيتنام في ايمانها بسلامة سياستها وصحة مواقفها حينذاك رغم كل ما كانت تقدمه من ضحايا في لحظة هو الذي فرض على العالم كله احترامها وتقديرها وتأييدها ولا شك ان اليه وحده – او على الاقل في الاساس – يرجع الفضل في مد جسور المعونات العسكرية والسياسية لها من جانب الدولتين العظيمتين اللتين اتفقتا في سياستهما الخارجية لأول مرة منذ تناقضهما العلني هناك وهما الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية. يتبع