أظهرت حادثة اقتحام السلفيين مؤخرا كلية الآداب بمنوبة والمطالبة بالسماح بدخول المنقبات وإقامة مصلى والفصل بين الجنسين أن مشروع أسلمة الجامعة يسير بخطى مستعجلة. وقد بدأت أولى حلقات مشروع الأسلمة في الجامعة التونسية المنسوبة إلى الحداثة منذ حوالي شهرين في كلية الآداب بسوسة وهي حادثة شبيهة تماما بما حدث أمس الأول فالسلفيون استخدموا «عود كبريت» واحدا لإشعال فتيل الأزمة وهو «النقاب» الذي لم يكن غير واجهة لخلفية مشروع الأسلمة الرامي إلى تهيئة الفضاءات الجامعية حتى تكون طيّعة وسائغة للانضواء تحت قبّة الإسلام.
ولمشروع أسلمة الجامعة التونسية بنود كثيرة على رأسها ضرب الحرية الأكاديمية وفرض الخط الإسلامي السياسي داخل الأجزاء الجامعية وإرساء تقاليد وأنماط تعامل تحت عباءة إسلامية ضد كل من يختلف معها ليحل بعد ذلك هاجس الاتهام بالكفر الذي إن صحّ سيصبح سيفا مسلطا على رقاب الطلبة والأكاديميين.
مشروع أسلمة لكن لنعد قليلا إلى الوراء فما حدث في كلية الاداب بمنوبة وقبلها في كلية الآداب بسوسة ليس جديدا على الجامعة التونسية وبدءا من السبعينات كانت الجامعة في قلب معارك ضارية بين الإسلاميين واليساريين قادت إلى أحداث عنف مقيتة أعطت الإذن للسلطة لدخول الأمن الجامعي وتصفية كلا التيارين بالاعتقالات والزج بمئات الطلبة في السجون والحرمان من مواصلة الدراسة وانتهت عمليات «التدجين» بإفراغ الجامعة التونسية من التنظيمات الإسلامية الناشطة انذاك (حركة الاتجاه الإسلامي وحزب التحرير) بحل الاتحاد العام التونسي للطلبة نهائيا وحظر كل أنشطته وإحداث الفرقة والفتنة داخل الاتحاد العام لطلبة تونس فحدث الانشقاق والانقسام بين منخرطيه.. وتلك كانت من الأخطاء القاتلة والغبية للنظام السياسي السابق وسياساته القائمة على ضرب كل صوت يختلف معه.
أخطاء قاتلة وقد أدى «التصحير» السياسي والايديولوجي للجامعة إلى حصول ترهل داخل اتحاد الطلبة الذي كان يجمع في هياكله عائلات اليسار والقوميين وحتى البعثيين. وبعد ثورة 14 جانفي لم تكن الجامعة بمنأى عن المشهد السياسي الجديد في تونس وما حدث فيه من تغيير راديكالي لكن الزج بها في أتون الصراع الايديولوجي كان مؤجلا إلى حين لملمة الشتات داخل الحركات الإسلامية وانتظار ما ستؤول إليه انتخابات المجلس التأسيسي.
رغم أن لا أحد باستطاعته حرمان الجامعة التونسية من الاختلاف السياسي ومنعها من ممارسة حريتها في احتضان الأطياف السياسية والسماح لهذه الأطياف بالتعبير عن أفكارها لكن ليس إلى درجة التآمر على هذه الحرية التي تمنح الطالب الحق في الكلام والتعبير والتفكير والمناقشة والمجادلة.
لا للمساس بالحريات والحرية الأكاديمية داخل الجامعة ليست حسب شريحة واسعة من الأكاديميين مطلقة فهي لا يمكن بأي حال أن تسمح بالإساءة وفرض المعتقدات والاراء والأفكار بأساليب متطرفة فللجامعة حرمتها ونواميسها ولا مجال فيها للدعوة إلى أسلمة المعرفة التي تخفي شهوة للسلطة.
وما يبدأ بفرض النقاب وإقامة المصليات لن ينتهي إلا بشهوة كاملة وشاملة على إنتاج المعرفة وأسلمتها داخل الجامعة والسيطرة على الوعي وعلى الحريات الفكرية والسياسية التي إن ضُربت في مقتل ضُرب معه الفكر العقلاني ومصادرة العلم والتطور الاجتماعي.
ويعتقد الجامعيون أن الجامعة التونسية لا تحتمل صراعا من هذا النوع حول المعتقدات والايديولوجيات والأفضل والأنسب أن تبقى بمنأى عن هذا الصراع وبدلا من أن تعمل الجامعة على تحديث المجتمع تسقط هي نفسها في مستنقع الصراع العقائدي.
فرص تضيع
يحدث هذا في جامعة تونسية تخلفت لعقود من الزمن في الترتيب العالمي للجامعات بشكل مخجل حيث أظهر تصنيف شنغهاي العالمي للجامعات أن الجامعة التونسية لا مكان لها بتاتا في ركب الجامعات الأوروبية ولا حتى الجامعات العربية التي نشأت بعدها بكثير.
يحدث هذا في الوقت الذي تبدو فيه الحاجة ماسة إلى إصلاح برامج التعليم وإعادة إنتاج المعرفة العلمية وإعادة التوازن بين الطلبة في مستوى معايير الالتحاق بالكليات ومراجعة أسباب عدم الاعتراف بالشهائد العلمية التونسية في جامعات البلدان الأوروبية وكلياتها.. وكأن الجامعة التونسية كتب لها أن تظلّ أسيرة الأخطاء القاتلة التي يرتكبها في حقها القائمون على شؤونها والمنتفعون بالتعلم فيها وقد تتحمل السلطة السياسية الوزر الأكبر في تدهور الجامعة إلى ما وصلت إليه وما قد تؤول إليه مستقبلا إن لم يتم تحييدها عن أتون الصراع السياسي الدائرة رحاه خارج أسوارها.