على جزأين تنشر «الشروق» محاضرة للدكتور صالح المهدي، الموسيقي المعروف ألقاها بالقاهرة، وتناول فيها بكل وضوح وعلمية اشكالية ذوقية وموسيقية مثلت حديثا متواصلا لكل المجالس الفنية او المهتمة وما زالت. ... في تونس بدأت علاقتنا بالموسيقى الغربية في بداية القرن الثاني عشر هجري، أواخر القرن السابع عشر ميلادي، على عهد الملك مراد باي الذي اعتنى بالفن وأهله ومارسه ابنه محمد ثم ابنه رمضان الذي كان يعزف على مختلف الآلات، وجلبت له أمه الايطالية آلة «أرمونيوم» من أوروبا جبرا لخاطره حيث كان فاقد البصر وكان يرافقه مغنيان «مزهود» و»محمد بن عبد النبي»، ومن ذلك التاريخ دخلت هذه الآلة فرقنا الموسيقية واستعملت في أداء مقاماتنا التي أساءت اليها حيث كانت لا تؤدي الا الأبعاد الكاملة وأنصافها وكادت تطمس هويتنا الفنية لو لا قيام شيخ الفنانين أستاذنا خميس ترنان في الثلاثينات من القرن العشرين بإزالة هذه الآلة من التخت العربي وتعويضها بآلة القانون. والمناسبة الثانية التي اتصلنا فيها بالموسيقى الغربية كانت في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي مع تأسيس الملك المشير أحمد باشا للمدرسة العسكرية بمدينة باردو والفرقة الموسيقية التابعة لها التي جلب لها آلات النفخ النحاسية وغيرها وأساتذة لها من فرنسا، وقامت هذه المدرسة بتدوين بعض البشارف والموشحات التونسية مع بيان قواعد عزف الآلات المجلوبة وذلك في مخطوطة محفوظة لدى المعهد الرشيدي بتونس الى الآن، وبعد ذلك تأسست فرق أهلية للموسيقى النحاسية مثل «الحسينية» و»الهلال» و»الاسلامية» و»الناصرية» شاركت جميعها في الاساءة الى أداء مقاماتنا الموسيقية العربية مثل (الراست والبياتي والصبا والسيكاه وما تفرع عنها). وعند تأسيس وزارة الثقافة في بداية الستينات من القرن العشرين عملنا على اصلاح الوضع وذلك باجراء حلقات تدريب وتعليم في ملتقى سنوي أسميناه «أسبوع الفن» وتنظيم مسابقات بين الفرق في أداء ما تعلموه من قطع مختارة من التراث والحديث في مقامات خالية من أرباع البعد الموسيقي مثل (العجم عشيران النهاوند الكردي النواثر النكريز الحجاز كار...)، والى الآن ما تزال بعض الفرق النحاسية في مختلف البلاد العربية مستمر في الاساءة للمقامات؟ وفي المغرب كرّمت الفرقة الملكية النحاسية بتسميتها ب»فرقة الخمسة والخمسين» عندما أنهت حفظها لجميع النوبات الأندلسية الأصل، وقد جاءت التسمية من ضرب عدد النوبات الاحدى عشرة التراثية في عدد الخمس ايقاعات التي تشتمل عليها كل نوبة، وفي نفس الفترة دخلت آلة «الفيولين» الى بلداننا فاعطيت في المشرق اسم «الكمانشاه» الفارسية ثم حرف هذا الاسم ليصبح «كمانجه» وفي المغرب العربي أعطيت اسم آلة قديمة «الجيغانه» الذي حرف هو الاخر ليصبح «الجرانه» فقد تبنى هذه الآلة عازفو الرباب لانها تعزف بجر القوس مثله أمثال المرحومين الأساتذة: أحمد دربال / شهر بطيخ في تونس والحاج العربي بن صاري من الجزائر ومحمد بن عبد السلام البريهي من المغرب وابراهيم سهلون من مصر وغيرهم... وجعلوا وضعها عند العزف على احدى الركبتين مثل الرباب وهي باقية على هذا الوضع الى الآن في الفرق التقليدية في كل من الجزائر والمغرب رغم عدم تيسر تطور براعة عزفها عند هذا الوضع، وبعد ذلك دخلت آلات «الكلارينات» و»الاكرديون» و»السكسفون» وغيرها في فرقنا وسيء استعمالها في أداء التراث، إلاّ في تركيا التي طوعتها للأداء الصحيح، أما في الانتاج الحديث فقد حدد استعمالها في الجمل الموسيقية الخالية من أرباع الدرجات وهذا عنصر ايجابي. تطويع وبعد ان دخلت فرنسا بلدنا بعنوان «الحامية» سنة 1881 م، تكاثرت الجاليات الغربية من فرنسا وإيطاليا بالخصوص فأسسوا فرقا صغيرة لموسيقى الصالون وأخرى للعزف في الأمسيات والسهرات بأشهر مقاهي العاصمة وصار أعيان البلاد يؤمونها ليقال انهم مواكبون للتطور. وفي الثلاثينات من القرن العشرين أسست بلدية العاصمة فرقة سمفونية كان عناصرها وروادها من الأجانب الأوروبيين، وقد عملنا على تونستها بعد الاستقلال سنة 1969 وذلك بجلب أساتذة من أوروبا يقومون بتدريس آلاتهم وبرعاية أبرز تلاميذهم للعزف بجانبهم في الأوركاستر، وجلبت قائدا من باريس تعاقدت معه للعمل لمدة عشر سنوات ووضعت له مساعدا من أبنائنا البارزين قام بدور الكمنجاتي الأول وعند انتهاء المدة سنة 1979 كان جاهزا لاستلام قيادة الأوركستر وهو الأستاذ أحمد عاشور، وجعلنا من شروط المشاركة في هذه الفرقة الاحراز على ديبلوم الموسيقى العربية بحيث ان افرادها يشاركون في فرق الموسيقى العربية التقليدية والعصرية بما فيهم قائدهم، وقد انتجنا قطعا سمفونية لهذه الفرقة أدخلنا فيها الطابع العربي من حيث المقامات المناسبة والايقاعات، كما ألفنا لآلة «الهارب» قطعا طوعنا فيها هذه الآلة لاداء مقام «السيكاه» وعزفت قطعنا السمفونية في مهرجاني «موسكو» و»لينين غراد» بالاتحاد السوفياتي لهذا الصنف من الموسيقى وعلى أجيالنا الصاعدة ان تواصل المسيرة في الصراط المستقيم. وفي ميدان التعليم، لقد كان لدراسة بعض الموسيقيين العرب في الغرب النصيب الاكبر في الاساءة لهويتنا الفنية، فقد عملوا على ادخال آلة البيانو للمدارس الابتدائية والثانوية وكان من نتيجة ذلك تركيز تلحينهم للأناشيد المدرسية على مقامي «الماجور» و»المينور» الغربيين واعتقادهم ان الأناشيد لا تكون الا على هذين المقامين، وتسربت العدوى لمعاهدنا الموسيقية حيث اصبح بعضها يطبق مناهج الموسيقى الغربية في تعليم النظريات والعزف على الآلات وخاصة الكامنجه وأنواعها، وأصبحنا نرى بالفرقة عشرات العازفين لهذه الآلة تكاد لا تجد فيهم من يقدر على الارتجال في مقام السيكاه او الصبا او رست الذيل بطريقة صحيحة مطربة ومن يبرز من عازفي هذه الآلة في معاهدنا يغادر بلده ويستقر بالخارج لضمان عيشه لان الشعب في بلاده ما يزال والحمد لله عربيا في احساسه وذوقه، وقد تراهنت مع الزملاء في أنقرة على برنامج التعليم ووقفوا على نصائحي عندما اصطدموا بالنتيجة وأصلحوا الوضع بتأسيس معهد للموسيقى التركية باسطنبول سنة 1974، وحضرت مؤتمرا للمجلس الدولي للموسيقى في السبعينات من القرن العشرين بباريس، حضره احد اخواننا العرب البارز في وطنه وقال ان الموسيقى العربية يجب ان تبقى في تجويد القرآن الكريم ولا بد لنا ان نتبع الموسيقى الكلاسيكية الغربية فقوبل بالتصفير الغاضب لانه فاته ان المجلس الدولي أسس دورة لانتاج الموسيقى الحديثة التي تخلت عن أصولها الكلاسيكية. كما ان المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم نظمت سلسلة ندوات لبعث خطة شاملة للثقافة العربية شاركنا في التي تتعلق بالموسيقى سنة 1983 بالكويت واذا أحد الزملاء مدير معهد باحدى العواصم العربية العريقة يتقدم باقتراح التركيز على الموسيقى الغربية الكلاسيكية محبذا بذلك استمرار الشعب ا لعربي على استعمال ما يتركه الغرب فيقول في آخر بحثه ما يلي: أما المستويات التي تتعلق بالموسيقى الانسانية الكبيرة التي يشار اليها خطأ بالموسيقى الكلاسيكية فيجب مراعات المستويات العالمية ومحاولة الاقتراب منها قدر المستطاع على الرغم من الصعوبات الكبيرة التي ستعترض الذين من بيئة عربية والذين غالبا ما ينقصهم الجلد والعناد والدأب في التغلب على الصعوبات التقنية... (المجلد الثالث / القسم الثاني / ص 562 من موسوعة هذا البحث)، وقد وصل بنا التخطيط للاندماج في التقاليد الغربية الى احداث اقسام للغناء على الطرق الغربية انتجت لنا مغنيات تؤدين الموسيقى العربية بصوت «السوبرانو» لنرمي بتقاليدنا العريقة التي بقيت حية متداولة عبر الأجيال منذ عهد جميلة وعزة الميلاء وابراهيم موصلي وزرياب في فجر الحضارة الاسلامية، وندخل في ثقافة الغير بطواعية وفخر...؟ قال المتنبي: وذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخ الجهالة في الشقاوة ينعم وكان من نتيجة ذلك ان اصبح لنا عوّادون لا يقدرون على الغناء مع العزف، وعازفوا كامنجه كأنهم خواجات، وعازفوا ناي يغيرون نايهم عديد المرات في القطعة الواحدة، وعازفو قانون أضاعوا امكانية محاسبة المغني البارع في تصرفه ومغنون قد أضاعوا تطبيق الأوزان على الموشحات اذا كانوا يحفظونها؟ والجميع اضاعوا طاقة الارتجال بالقفلات المنوعة المطربة وكثيرون منهم يقلدون ارتجال الشيوخ او يلحن لهم ارتجال ثم يحفظونه ليعيدوه في كل مناسبة وهذا هو عين الضعف والجهل لان الارتجال هو التأليف او التلحين الفوري الذي يتحاور به الفنان مع سامعيه الذين يعبرون عن سعادتهم بسماع القفلة المطربة الممتازة بذكر اسم الجلالة خوفا على المؤدي من العين الشريرة وإكبارا لجمال صوته وحسن أدائه وذلك هو معدن السعادة. الأستاذ: صالح المهدي